الإطار الفكري ومخاطر إهماله | من الماركسيين لأنصار الخلافة.. هل نعاند حركة التاريخ؟ | حيدر راشد

الإطار الفكري ومخاطر إهماله | من الماركسيين لأنصار الخلافة.. هل نعاند حركة التاريخ؟ | حيدر راشد

21 Jun 2018
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

الإنسان لا يحب الأسئلة المفتوحة، ولا النهايات المجهولة. وهو لهذا السبب يتفوق، ومن هذا المأخذ يتقوض.

فلأنه يهوى البحث عن إجابات لأسئلته، بل عن أسئلة جديدة حتى، فهو يستطيع التقدم باطراد في العلم والفلسفة والتقنية وحتى الأخلاق.

لكنه حين يفرض على نفسه مفاهيم جاهزة، يحصنها من المساءلة عمدا، ويستغني بها عن التفكير، ففي ذلك أعظم الضرر، وإن كان يحسب أنه يحسن بذلك صنعا.

فالفكر البشري – كالكائن البشري – محدود الأفق، محدود الاطلاع، محدود المصادر.

من نيوتن إلى أبي بكر الرازي

محدودية الفكر ليست مما يعيب العقل البشري أبداً، بل هي أحد دوافع تطوره المستمر، بحيث يمكن النظر لتاريخ المعرفة البشرية على أنه سلسلة من التعقيبات والتصحيحات، المتفاوتة في الحجم والتأثير.

بدءا من توصل نيوتن لقوانين الميكانيك والجذب الكوني (التي قادت آخر الأمر إلى الثورة الصناعية، الممتلئة ثقةً بقدرة الإنسان على تسخير الطبيعة) إلى “الشكوك على جالينوس” التي دونها أبو بكر الرازي، موضحا سبب تأليفه:

“وإن سألتَ عن السبب الذي من أجله يستدرك المتأخرون في الزمان على أفاضل القدماء مثل هذه الاستدراكات، قلتُ: إن لذلك أسبابا:

فمنها السهو والغفلة الموكّلة بالبشر، ومنها غلبة الهوى [= التحيز] على الرأي في رجل من الناس لأمر ما، حتى يقول فيه خطأ، إما وهو يعلم خطأه وإما وهو لا يعلم…

ومنها أن الصناعات [= العلوم] لا تزال تزداد وتقرب من الكمال على الأيام، وتجعل ما استخرجه الرجل القديم في الزمان الطويل، للّذي جاء من بعده في الزمان القصير، حتى يحكمه ويصير سببا يسهل له استخراج غيره به.

فيكون مَثَل القدماء في هذا الموضع مثل المكتسبين [للمال]، ومَثَل من يجيء من بعد مثل المورّثين، المسهّل لهم ما ورثوا اكتسابا أكثر وأكثر.

فإن قيل لي: هذا يدعو إلى أن يكون المتأخرون من أهل الصناعات أفضل فيها من القدماء.

قلت: إني لا أرى أن أطلق ذلك، إلا بعد أن أشترط في وصف هذا المتأخر من الزمان، بأن أقول: إذا كان مكمّلا لما جاء به القديم.” [الشكوك 2-3]

العلوم الزائفة

ولو كان الرازي يكتب بأسلوبنا المعاصر، لقال: إن حصيلة المعارف أشبه بدائرة تنشأ من حولها دوائر أوسع، أو مدينة تبدأ صغيرة ثم تسمق مبانيها وتكثر أحياؤها ويزداد سكانها.

هذا إن كانت المسيرة المعرفية بناءة بحق، أي تتصاعد طرديا مع الزمن، وهو الحال في العلوم الطبيعية منذ الثورة العلمية.

اقرأ أيضا: معالم التفكير الذكي

ولكن حيث إن هذا التصاعد كثيرا ما يحدث بسرعة لا تتناسب مع تقبل الأذهان لتشكلات المعرفة الجديدة، فكثيرا ما تعاني العقول من محاولة التوفيق بين إطارين مختلفين، أو الانتقاء العفوي من مفاهيم كل منهما، أو حتى النظر لإطار ما بوصفه مطلقا، واعتبار كل ما سواه نسبيا.

بعض الأمثلة ستوضح هذه الحالات، والعواقب الكارثية التي أدت إليها.

لعل أشهر أنواع العلم الزائف وأعظمها أثرا في القرن العشرين هي “الاشتراكية العلمية“، أي التصور الشيوعي عن بناء الاقتصاد.

فمع فشلها الذريع في تحقيق الرفاه لأي مجتمع طبقت فيه، وتلازمها الدائم مع الاستبداد والإبادة وتجفيف الموارد، وتركها البلدان التي حكمتها لعقود حطاما يعسر عليه التقاط أنفاسه، فإنك تجد في الساحة الأكاديمية مدافعين كثرا عنها، وفي البلدان التي حققت أعظم نجاح واحتلت أعلى مراتب التقدم – بنحو يبعث على الدهشة.

وحتى بعد عشرة أعوام من الأزمة المالية، التي كان أهم أسبابها تساهل الدولة في الإقراض (وهو سلوك غير رأسمالي بامتياز)، نجد النيويورك تايمز  تنشر اليوم (30 أبريل 2018) مقالة تستذكر فيها ميلاد ماركس، وتقول له “لقد كنت محقا!” (مرددة ما قاله تيري إيغلتون قبل أعوام في كتاب بنفس الاسم).

وما كان ذلك منهم إلا وفاءً ليقينهم في إطلاق ذلك الإطار، ولسان حالهم يقول “إن كان ماركس باطلا، فإيمانكم إذن باطل!”

قصور الماركسية

على أن كل محاولات تطبيق الماركسية خارج أوربا الغربية تنطوي على خطأ نظري فادح، قد يكون أصلا لكل الكوارث العملية التي تمخض عنها التطبيق.

فمعظم البلدان التي ابتليت بانتشار الاشتراكية أو حكمها، لم تكن قد مرت بالمراحل التي افترضها ماركس قانونا حديديا للتحول التاريخي.

فلا الصين ولا مصر ولا يوغسلافيا كانت – قبل بزوغ الثورات – تداني ألمانيا أو فرنسا في شأوها الصناعي وطموحاتها العالمية، بل كانت مجتمعات زراعية تسودها الأمية، وتحكمها ممالك محلية أو محتلة.

ومن يسهل عليه تجاهل تلك المفارقة الواضحة، تهن عليه أرواح الناس وأملاكهم.

اقرأ أيضا: متى ننصت لصوت العقل؟

ماذا عن الإسلاميين؟

ولو أردنا البحث عن منافس محلي لهم، فإن الإسلاميين يتصدرون القائمة بلا منازع.

فمن غيرهم استطاع إحاطة العقل العربي بقبة حديدية من خلال بدع معرفية “كالإعجاز العلمي” أو “أسلمة العلوم”؟

وقد نجحوا في تعميم هذه الأوهام ونشرها إلى حد أصبحت معه من المسلّمات عند العوام، الذين لا يعلمون (لأنهم لا يقرأون) عن تحذيرات فقهاء بمستوى الإمام الشاطبي في “الموافقات” حين يقول:

“إن كثيرا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين، من علوم الطبيعيات، والتعاليم [= الرياضيات]، والمنطق، وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها.

وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح… وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا.

نعم، تضمن علوما هي من جنس علوم العرب، أو ما ينبني على معهودها… أما أن فيه ما ليس من ذلك، فلا.

وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء}، وقوله: {ما فرطنا في الكتاب من شيء}…

فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو المراد بالكتاب في قوله: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية.” [الموافقات 2: 127-129]

لكن التضحية بالوعي العلمي لم تشبع طموحهم، حيث عمدوا إلى السياسة (وهي مطلبهم الأسمى) فنادوا بكفر كل منافسيهم، منددين بمظاهر العلمنة البسيطة التي استطاعت بتعثر أن تنجو من موجة العروبة الغامرة، ومساوين إياها بأشنع الكبائر التي تخطر في بال فقيه.

قد يتوقع المرء من هجمة بهذا العنف أن تحمل وراءها أطروحة سياسية خلاقة، تحمل بذور النجاح ومعالم الترقي، وتحقق “النهضة” المنشودة بسرعة قد تجعل شعوبنا تنافس الغرب الرأسمالي، ولكنه بعد أدنى اطلاع على كتبهم سيصاب بخيبة ثقيلة.

إغفال الإطار الفكري

فالبديل السياسي الذي يقترحونه بناء نظري محض، قائم على المثاليات التي كتبها فقهاء القرون الأولى، إما استرضاءً لملوك زمانهم أو تنفيسا عن أمانيهم الحرّى، وكل شواهده (المطبقة كليا أو جزئيا) كانت قصيرة العمر بوضوح، وسرعان ما كانت عرى التشدد فيها تنحل بتعاقب الملوك، لتصل إلى عين الانحطاط الذي نقمته على أسلافها – كما أوضح ابن خلدون في فصل “أطوار الدولة واختلاف أحوالها” من مقدمته الثمينة.

ومع أن الإسلاميين روجوا بكثافة لإحياء حلم الخلافة في العقود الخمسة الماضية، من بعد انهزام الدعاية الناصرية عن الاشتراكية والعروبة تحت وقع الصواريخ الإسرائيلية (ومن ورائها العالم الرأسمالي بأسره)، وطرحوه مراراً كخيار واقعي “لتحرير أمة الإسلام” (ومن هنا جاء اسم “حزب التحرير”)، فقد غفلوا عن نفس المشكلة التي نتحدث عنها هنا – مشكلة الإطار.

فهؤلاء الغارقون في غياهب التراث، لم يملكوا من الوعي التاريخي ما يكشف لهم عن التحولات التي حدثت حتى في فكرة الخلافة ذاتها.

فما كان يملكه هارون الرشيد من المهابة والسلطان، لم يكن الناصر لدين الله يملك ربعه حتى (وهو الذي كان صلاح الدين يحكم باسمه ظاهريا، ونازعه حتى في هذا الاسم حين تسمى “بالملك الناصر”).

كما أن نشوء الممالك والسلطنات (التي حملت هذا العنوان لئلا تنازع الخليفة لقبه “الشرعي”) قد أفرغ الخلافة من سيادتها الواقعية حتى بقيت جبة واسعة على هيكل مهزول.

ولم تنفع محاولات الاسترداد الطموحة (كمحاولة المقتفي لأمر الله إعادة السلطة إلى بغداد، وتجريد السلاجقة من نفوذهم الواسع) في إطالة عمر الخلافة لأكثر من قرن.

أقدم انتقاد لـ”حلم الخلافة”

ومن المدهش أن أقدم انتقاد لهذا الحلم يعود إلى نفس العام الذي أعلن فيه إلغاء الخلافة رسميا، في مقالة للمفكر السوري الراحل (والشاب النابه آنذاك) أنطون سعاده.

حيث يكتب في مقالة “الخلافة في الإسلام” الصادرة في أبريل 1924:

“لقد مضى الزمن الذي كان يحتاج فيه الإسلام إلى قوة تدرأ عنه الاضطهاد من حيث إنه دين، لأن اضطهاد الأديان بعضها بعضاً لم يعد له معنى في القرن الحاضر. ففي هذا الزمن كل إنسان يمارس دينه دون أن يفكر أحد بالتعرض له.

ولأن الإسلام في هذا الجيل ليس حركة القصد منها «محاربة الكفار»، لذلك لم يعد هنالك ضرورة لجعل الخلافة في أقوى أمير في الإسلام. ومن راقب الخلافة في سنيها الأخيرة في آل عثمان، وجد أنّ الخليفة منهم لم يكن الحاكم بأمره بين المسلمين ولا أميرهم المطاع.

وانتفاض العرب وغيرهم من الأمم الإسلامية على الأتراك أثناء الحرب برهان قوي يؤيد هذه النظرية، ويوضح الحقيقة بأن الخلافة لم تعد لازمة للإسلام أكثر من لزوم الباباوية للمسيحية، أي بإبقائها قوة روحية لا علاقة لها بالسياسة والاقتصاد وما شاكل.

وعلى هذا لا أرى في إخراج الخلافة من الأتراك غرابة، وأظن أنّ ما يتوقف على هذا العمل من الحوادث سيكون على غير ما تخمن الدول الغربية.” [الأعمال الكاملة، الجزء 2]

هل نعاند حركة التاريخ؟

ومع الدقة الشديدة التي اتسم بها تحليله، فإن توقعاته في هذه المقالة (وهي تستحق القراءة كاملة) لم تحظ بنفس القدر من التوفيق.

فتجربة المنطقة العربية مع التيارات التي نشأت ونمت عن النقمة على إلغاء الخلافة، من الإخوان في مصر إلى داعش في العراق وسوريا، تثبت أن هذه الشعوب لم تتعلم شيئا عن عمد، ربما ظنا منها بأن معاندة حركة التاريخ قد تفضي إلى نجاح ما.

وعلى أنقاض هذه الكومة الداخنة من الأنقاض والأشلاء، أستبعد أن يأتي على هذه الرقعة عهد قد يصغي لهذه المقولة الرائعة، التي كتبت قبل قرن ونصف، في فجر عصر النهضة العربية:

” يا ابن الروح، أحبّ الأشياء عندي الإنصاف. لا ترغب عنه إن تكن إليّ راغبا، ولا تغفل منه لتكون لي أمينا.

وأنت توفّق بذلك أن تشاهد الأشياء بعينك لا بعين العباد، وتعرفها بمعرفتك لا بمعرفة أحد في البلاد.

فكر في ذلك كيف ينبغي أن تكون. ذلك من عطيّتي عليك وعنايتي لك، فاجعله أمام عينيك.”

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك