عشية الإطاحة بشاه إيران في 11 فبراير 1979، بدأ رجال دين الشيعة خطط الاستيلاء على الحكم، حتى أعلنوا رسميًا عن تأسيس الجمهورية الإسلامية في 1 أبريل 1979.. بعد 21 يومًا، دشنوا قوات حرس الثورة الإسلامية، والتي رسخ الدستور دورها في مادته 150، ليتحول – بعد أربعين عامًا – إلى مركز قوى متوغل في الحياة السياسية والاقتصادية في إيران، عبر طبقة حاكمة تشمل عسكريين، ورجال مخابرات، وسياسيين، ورجال دين، وكيانات اقتصادية ومالية.. مُمسكاً بزمام الأمور في الداخل ومديرًا للتمدد الإيراني بالخارج، مُمتلكًا لفروع رئيسية من القوات البرية، قوات النخبة “فيلق القدس”، القوات البحرية، القوات الجوية وقوات الباسيج، التي تجيش المجتمع بصورة يصعب معها تخيل وجود أسرة دونما ارتباط أحد أفرادها بهذه القوات.
إيران الثورة الإسلامية مؤسسة على أعمدة مستمدة كليًا من مبدأ “ولاية الفقيه”، الذي يعطي الأولوية لرجال الدين على حساب السلطة السياسية، ومبدأ “تصدير الثورة” كرخصة سياسية ألبسها الدستور ثوبًا دينيًا تسمح للنظام بالعمل على زعزعة استقرار دول مجاورة على حساب مبدأ حسن الجوار، ولقوي ومؤسسات الظل على حساب المؤسسات الرسمية المتعارف عليها في جميع الأنظمة السياسية.
ولترسيخ هذا الوضع، تعتمد إيران على نظام من القوي المتوازية من شأنه أن يجعل طرفي المعادلة في حالة ظلام نسبي، لتكون النتيجة بالنهاية – فقط حصريًا- بيد المرشد الأعلى.
في التفاصيل، تتداخل الدولة والثورة إلى حد بعيد في تشكيل المؤسسات وآليات عملها. لكل مؤسسة ظلها، ومقابل كل مؤسسة دولة هناك مؤسسة ثورة، تكون عادة أكثر أهمية وتشددًا من المؤسسة نفسها.
الجيش الإيراني – الذي التزم الحياد وقت الثورة – لم يحصد ثقة الخميني، فكان الحرس الثوري؛ ككيان موازٍ مكلف بحراسة الثورة ومكاسبها، محملًا طبيعة عقائدية لا تلتزم بمسؤولية الحماية وحراسة الحدود فحسب، بل تحمل أعباء الرسالة التي حددها المشرع.. بسط حاكمية القانون الإلهي في العالم، ليصبح عماد النظام وذراعه القمعية لتنفيذ المهام التي تتطلب درجةً عالية من الالتزام الأيديولوجي، في داخل إيران وخارجها.
من هنا، تورّط الحرس الثوري – خصوصًا فيلق القدس الذي يرأسه قاسم سليماني منذ 1998 – بذريعة “مناصرة المستضعفين” في عدة معارك دموية خارج الحدود الإيرانية، في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وبشكل ملفت للنظر ومهدد للاستقرار ومقوض للأمن منذ 2014، عبر تورط إيران المباشر، والالتجاء للقوة الخشنة من أجل تصدير الثورة.
مظاهرات في العراق تضع الحكومة في ورطة.. ماذا حدث؟ وما علاقة إيران؟ | س/ج في دقائق
الحرس الثوري نجح فعلًا في تمديد نفوذ إيران خارج حدودها، ممكنًا لها في عواصم عربية مجاورة، لكن التحرك لم يكن محسوبًا، والسيطرة على مراكز صنع القرار في تلك العواصم كانت فجة أكثر من اللازم.. كل ذلك في ظل عودة مُقيتة لمصطلح بائد من سراديب الخطاب السياسي الإيراني، سقط من بين مفردات إيران وتصريحات قادتها منذ نحو عقدين أو أكثر، وهو “تصدير الثورة”؛ في مؤشر على تنامي الخط السياسي الإيراني القديم الجديد.
في خطابه بمناسبة الذكرى الـ 36 لانتصار الثورة الإسلامية، أشار قاسم سليماني إلى “الإنجازات الفريدة” للثورة الإسلامية، وبينها مؤشرات “تصدير الثورة باتت مشهودة في كل المنطقة، من البحرين والعراق إلى سوريا واليمن، وحتى شمال أفريقيا”، بكل ما يحمله ذلك من ملامح استكبار غير مبرر، وما يفرضه من زحف غير قانوني على سيادة دول مجاورة، وما يجلبه من تداعيات على طرفي المعادلة: “الوكيل والراعي”.
سليماني لم يكن وحده “المزهو بالوصول لمرحلة التمكين. أذرع إيران اعترفوا في كل دولة بدور طهران الكبير في مسيرة النشأة ومسار تطورات الأحداث، من حزب الله في لبنان ،إلى الحشد الشعبي في العراق، والحوثيين في اليمن، وحتى النظام السوري نفسه، لكنهم لم يحسبوا احتمالات الارتداد العكسي، الذي طوق إيران بحصار دولي مطبق، واحتجاجات شعبية في تلك الدول.
والأهم، انتقال عدوى الاحتجاج إلى موجة غضب داخلية داخل إيران نفسها، كاشفة الغطاء الديني الذي ارتدته طهران لحماية نظامها السياسي، معترضة على أموال الإيرانيين التي تذهب للخارج، ومطالبة بمزيد من الإصلاحات، بكل ما يحمله ذلك من تداعيات داخلية وانعكاسات على النفوذ والدور الإقليمي لإيران.
إيران | لماذا اشتعلت عشرات المدن دفعة واحدة؟ | س/ج في دقائق
الاحتجاجات في إيران تختلف هذه المرة عن سابقاتها في 1999 و2009، و2017، كونها أكثر قابلية للاستمرار بسبب تركيز النظام على استخدام أدوات القمع، رغم اختلاف الظروف المحيطة، لكن خامنئي سيسير على خطى سلفه حينما تجرع كأس السم بوقف إطلاق النار مع العراق، ليجد نفسه مضطرًا لتهذيب الدور الإقليمي لإيران، بالتراجع “التكتيكي” عن بعض الأدوار الخارجية؛ في اليمن مثلًا، حفاظًا على نظام يتداعى شعبيًا ولو استمر مؤسسيًا.
صحيح أن الخطاب المسيطر على السياسة الخارجية الإيرانية أيديولوجي في توجهاته، لكن العملية لم تغب تمامًا عن تكتيكات التحرك. من هنا، لا يبدو تغليب الجانب البراجماتي في محاولة احتواء التطورات الأخيرة مستبعدًا تمامًا، خصوصًا مع اقتراب الانتخابات التشريعية في فبراير، وبعدها الرئاسية في 2021.
مسارات تحرك طهران وفق هذه المعطيات قد تشمل سلوكًا مختلفًا ظاهريًا إلى حين، بينها “إعادة صياغة” قرار تقليص دعم الوقود، بخفض مستوى الزيادة دون إلغاء نهائي، أملًا في تهدئة الشارع، وتخفيض فاتورة العقوبات الأمريكية في الوقت نفسه، مع استمرار دعاوى للمظلومية الداخلية، عبر خطاب يحمل أعداء إيران مسؤولية الاحتجاجات الحالية، تمسحًا بالدين تارة، ولعبًا بأوراق سياسية تارة أخرى.
وبعدما كشفت الاحتجاجات أضرارا سياسة الصبر الاستراتيجي الطويل، ربما تحاول إيران انتهاز أقرب فرصة ممكنة لفتح مفاوضات مع الولايات المتحدة، أملًا في تخفيف الضغوط الاقتصادية المفروضة عليها، مع ما يستلزمه لك من تقييد ابتزاز المجتمع الدولي ككل بتهديد الملاحة الدولية والمضائق البحرية.
قد يلجأ مجددًا للعبة الكراسي الموسيقية التي تحكم النخبة الإيرانية، عبر معالجات ضرورية لمراكز القوى. قد يبدل مواقع بعض القيادات من مؤسسة لأخرى. ربما يشمل ذلك الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، الذي تعرض دوره الخارجي لشكوى سابقة من السيستاني لخامنئي طلب فيها الحد من نفوذ سليماني في العراق، والذي يعتبره المعارضون في الداخل “رمزًا لكل شرور النظام”.