بعد حرب الأيام الستة يونيو 1967 مباشرة، أعلنت جامعة الدول العربية في قمة الخرطوم الالتزام بـ "اللاءات الثلاثة": لا سلام مع إسرائيل - لا اعتراف بإسرائيل - لا مفاوضات مع إسرائيل.
وعندما خرجت مصر بقيادة الرئيس محمد أنور السادات عن اللاءات الثلاثة، وعقدت اتفاق السلام مع إسرائيل في 1979، طردتها جامعة الدول العربية.
اللاءات الثلاثة أسقطت لاحقًا خطة وزير الخارجية الأمريكي ألكسندر هيج المبنية على خلق "توافق استراتيجي" بين السعودية والأردن وإسرائيل، بالإضافة إلى تركيا وباكستان وعراق صدام حسين، ضد عدو مشترك.. الاتحاد السوفيتي حينها.
لكن دول الشرق الأوسط الناطقة بالعربية - التي كانت نقطة ارتكاز الخطة - تمسكت باللاءات الثلاثة، فسقطت الخطة عمليًا.
في 1991، استضافت العاصمة النرويجية أوسلو محادثات سرية، واستضافت العاصمة الإسبانية مدريد مؤتمرًا علنيًا للسلام برعاية القطبين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي؛ سعيًا للتفاوض من أجل السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بمشاركة لبنان والأردن وسوريا.
في الشهور التالية توالت الاجتماعات الثنائية ومتعددة الأطراف. حتى 13 سبتمبر 1993، حين جمع الرئيس الأمريكي بيل كلينتون طرفي الصراع الأصليين في حديقة البيت الأبيض. رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات.
توصل الطرفان إلى اتفاق "إعلان المبادئ" المعروفة باسم معاهدة أوسلو حول ترتيبات لحكم ذاتي انتقالي، في أول اتفاقية رسمية مباشرة بين الطرفين، تضمنت التزام منظمة التحرير بحق إسرائيل بالوجود في سلام، مقابل اعتراف إسرائيل بالمنظمة ممثلًا شرعيًا وشريكًا تفاوضيًا ينوب عن الشعب الفلسطيني.
كان يُنظر إلى هذه اللحظة حينها على أنها لحظة "سلام لا رجوع فيه"، بما كان من شأنه أن يحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى الأبد.
لم يتأخر الاختراق الثالث. في العام التالي مباشرة، وقعت الأردن وإسرائيل معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية "معاهدة وادي عربة" في 26 أكتوبر 1994؛ للاتفاق على إنهاء حالة العداء القائم، وحل للنزاع الحدودي في الخط المار بوادي عربة، وتطبيع العلاقات بين البلدين.
لتصبح الأردن ثاني دولة ناطقة بالعربية بعد مصر، وثالث جهة عربية بعد مصر ومنظمة التحرير الفلسطينية تتفاوض مع إسرائيل.
المعاهدة كانت تعني تخلي الأردن عن مطالبته بالضفة الغربية لصالح حل سلمي بين إسرائيل ومنظمة التحرير.
وعلى عكس الاختراق الأول، لم تتحرك الجامعة العربية هذه المرة.. لم تتخذ أي إجراء ضد الأردن.
تغير الزمن منذ رؤية هيج الفاشلة لجبهة موحدة ضد السوفييت. لم يعد تهديد السوفيت قائمًا، لكن إيران حلت مكانه. لتشهد أوائل العقد الأول من القرن الـ 21 جبهة موحدة متنامية بين إسرائيل ودول الخليج ضد إيران، التي حملت تهديدًا اعتبره كلاهما أكثر خطورة وأقرب جغرافيًا من "البعبع" الذي كان قابعًا في موسكو.
يعتقد خبراء الشرق الأوسط مع ذلك أن حكام المنطقة كانوا يخشون من "ثورة الشارع" حال عقدوا علاقات علنية مع ما يصفه بـ "الكيان الصهيوني". لكن "الشارع" تمرد في 2011 لأسباب اقتصادية، وليس بسبب الانتفاضات الفلسطينية، أو زحف إسرائيل في الضفة الغربية.
"الثورات" أطاحت بحكومات "الديكتاتوريين العالمانيين"، أو أدت إلى حروب أهلية مفتوحة في اليمن وسوريا. لكنها لم تطل الملكيات العربية التي كانت إسرائيل تطور معها علاقات متزايدة ، وإن كانت سرية.
وسط كل هذه التطورات، لم تترك إدارة أوباما لدول الخليج خيارًا إلا إسرائيل، مع تقاربها من إيران - الخطر القائم - وتركيا وقطر الداعمتين لتنظيم الإخوان.
الخبراء الذين ركزوا منذ فترة طويلة على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني باعتباره الأزمة المركزية في الشرق الأوسط ، على عكس الحرب الأهلية السورية على وجه الخصوص ، لم يدركوا أن إدانة جامعة الدول العربية لحليف إيران حزب الله كمنظمة إرهابية في 2017 كان إعلانًا ضمنيًا لمدى التغيير في العلاقات العربية الإسرائيلية.
المهووسون بـ"مركزية الصراع" رفضوا ببساطة أن يدركوا أن الشروط لاستراتيجية "من الخارج إلى الداخل" أصبحت أكثر ملاءمة بكثير.
المفاجأة أن إدارة ترامب أدركت الحقيقة قبل غيرها. أن "الشارع العربي" كان وهمًا تمامًا مثل "الربيع العربي"، وأن مركزية "القضية" الفلسطينية كانت على وشك الهبوط إلى هامش اهتمامات الشرق الأوسط.
أدركت أن دول المنطقة مستعدة للعمل وفق قاعدة "عدو عدوي صديقي" وأن خط الصدع الرئيسي يتحول نحو مواجهة الإسلام السياسي المتطرف الذي ترعاه تركيا وإيران في المنطقة.
عندما أعلن ترامب اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل، ثم الاعتراف بضم الجولان إلى إسرائيل، لم تظهر سوى معارضة حكومية شكلية و"قلق صامت"، بينما ظل "الشارع العربي" وحتى "الشارع الفلسطيني" خاوية.
مشهد الشوارع الخاوية لم يتغير حتى حين وقعت الإمارات، رغم الاحتجاجات الفلسطينية، اتفاقية التطبيع مع إسرائيل.
وعندما حاولت السلطة الفلسطينية انتزاع إدانة من جامعة الدول العربية للخطوة الإماراتية، رفضت الجامعة المناشدات الفلسطينية.
بعدها، سمحت السعودية والبحرين علنًا لطائرة من شركة العال بعبور مجالهما الجوي، قبل أن تنضم البحرين رسميًا لحراك السلام، ويعلن ترامب أن ست دول في المنطقة قد تنضم قريبًا.
النقلة النوعية في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط مفيدة لأطرافها: حكومات المنطقة ترى اتفاقات السلام تسمح بتكوين تحالف دبلوماسي وعسكري رسمي ضد "العدو المشترك"، بخلاف المنافع الاقتصادية بالدخول في شراكات مربحة مع جار قوي ومتقدم.
الصفقة تمنح ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد قدرًا ضخمًا من رأسالمال السياسي، خاصة في واشنطن، سيمكنه من كسب الفائز في الانتخابات المقبلة، بقي ترامب، أو وصل بايدن. كما يفتح الفرص أمام التنويع الاقتصادي والتعاون في مجالات البحث العلمي.
سيتغير وضع ترامب كذلك، بعدما نجحت إدارته في قيادة عملية السلام للوصول إلى إنجاز لم يصل إليه سلفه باراك أوباما؛ إلى جمع الأيادي العربية والإسرائيلية معًا، بما تعتبره "سكاي نيوز" مؤشرًا مهمًا نحو إعادة انتخابه؛ باعتباره صانع الصفقة الأهم في المنطقة.
الأمر نفسه ينطبق على بنيامين نتنياهو، الذي يواجه خطر انهيار حكومته الائتلافية الداخلية في ظل الدعوات لانتخابات جديدة هي الرابعة في أقل من عامين.
وحدهم الفلسطينيون قد يخرجوا خاسرين من امتداد الحراك الذي يفك الارتباط عمليًا بين تسوية الشرق الأوسط والصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
يبدو الآن أن أقوى دعم للرفض الفلسطيني لا ينبع من العالم العربي، بل من العناصر اليسارية في الغرب، وخاصة المثقفين والأكاديميين، في الوقت الذي تفكر فيه الدول العربية في تفاعل أكثر انفتاحًا مع إسرائيل، إن لم يكن الاعتراف الصريح بها.
لكن دوف زاخيم، الذي شغل منصب وكيل وزارة الدفاع الأمريكية سابقا، يرى أن الطريق الحقيقي إلى حل الدولتين لا يمر عبر الأكاديميين الأمريكيين والأوروبيين، بل بإدراك القادة الفلسطينيين أن الزمن قد تغير ، وأنهم لا يستطيعون الاعتماد على الدول العربية ولا على الشارع العربي لفرض تنازلات إسرائيلية.
نأسف للفلسطينيين.. إنه ليس شرق أوسط “أبوكم” (ناشونال إنترست)
كيف غيرت صفقة ترامب من سياسات الشرق الأوسط (سكاي نيوز)
صفقة السلام الجديد تغير من الشرق الأوسط (نيويوركر)