في أصداء دعاوى ازدراء الأديان التي اعتقل لأجلها عدة مواطنين في مصر مؤخرًا (أبرزهم بالطبع الكوميدي الذي حاكى طريقة حديث بعض المذيعين)، ومحاولة شيخ الأزهر أن يزايد على الموقف الرسمي للدولة من خلال الإدلاء بتصريحات رسمية لوزير الخارجية الفرنسي، وإعلانه عن التأسيس المزمع لمركز يدافع عن التراث الإسلامي، تخطر في بالنا ذكريات ضعيفة عن الرئيس عبد الفتاح السيسي وهو يتحدث عن “الإصلاح الديني” كضرورة اجتماعية وسياسية، ويعاتب شيخ الأزهر على وقوفه في وجه خطوات أساسية نحو هذا الهدف.
ويبرز في أذهاننا عندئذ سؤال بسيط: هل بقيت للدولة رغبة حقيقية في هذا الهدف؟ أم أنه استحال – بعدما اختمر لسنوات في أرشيف الملفات المعلقة – من “ضرورة” إلى “أسطورة” ؟
سلمى الشيمي اتسجنت يا رجالة بالإنجليزي | “فتاة الزي الفرعوني” في صحف عالمية | الحكاية في دقائق
لا يخفى على من تابع الساحة المصرية – بوصفها أوسع مسرح للجدل حول مستقبل الإسلام في المنطقة – أن مصطلح “الإصلاح الديني” ظهر في واجهة الأحداث بعد الإطاحة بحكومة تنظيم الإخوان، لأن الدولة أدركت بنحو ما أن أفكار الحاكمية تسلبها الشرعية الاجتماعية والوجودية وتمنحها لتنظيمات تحمل التكفير سيفًا على رقاب الجميع.
لكن هذا الإدراك جاء منقوصًا للأسف؛ لأنه أغفل حقيقة أن الدولة لو تدخلت في اللاهوت المسيطر للدين فعليها على الأقل أن تخلق (أو تروج) نسخة تتضمن هامشًا كافيًا من الحريات الشخصية والفكرية للمواطنين، بنحو لا يشعرهم بالأسر الاجتماعي ويبعث فيهم الامتنان في الواقع تجاه الدولة ذاتها.
فقبضة الدولة مهما تكن محكمة، ستظل في حاجة إلى نشوء طبقة موالية ومحبة لها، تستغني بفضلها عن جزء كبير من أجهزة التخويف والزجر التي باتت أشبه بالمتحجرات الاشتراكية في عصر المعلومات.
لهذه الأسباب يحتفي أنصار الإخوان بمعارك شيخ الأزهر | عبد السميع جميل
هذا الأمل، على براءته وصدقه، يصطدم بالبنية القضائية والأخلاقية لمؤسسات الدولة، التي تكونت من طبقات غير متجانسة تخشب بعضها فوق بعض.
فبينما نحن نتحدث عن انتصارات الجيش المصري في وجه أعتى وأبشع تنظيمات الجهاد المعاصرة، يفاجئنا القضاء بأحكام حبس ارتجالية بتهمة “انتهاك قيم الأسرة المصرية”، ذلك العنوان الفضفاض الذي ينتهك- بدوره- قاعدة قانونية رئيسة: أن الشك يفسر لصالح المتهم لا المحكمة.
وبينما يخرج بعض النقاد، الذين استبشروا بانعتاق مصر من ربقة التنظيم الدولي، وخروجها من “منحدر الصعود” الذي كان يعدّها لمصير لا يختلف كثيرًا عن الحرب الضروس في سوريا، ويوجهون أصابع الاتهام إلى جوانب من التراث الإسلامي يعدونها سببًا في استدامة التطرف وتجذر التخلف؛ نجد في المقابل شيخ الأزهر وهو يشيد بالدور الفكري لسيد قطب، ويقرب إليه مشايخ محسوبين على التنظيم المحظور، ويندد بكل نقاد التراث بوصفهم “متذرعين للطعن في صحيح الإسلام.”
والقضاء، من جديد، يحذو حذوه ولا يحيد عن ظله. حيث حكم على إسلام بحيري بالسجن لعامين خففا من بعد إلى عام واحد، وكذلك حكم على محمد عبد الله نصر بالسجن لخمس سنوات، خففت أيضًا إلى عام ونيف.
شيخ الأزهر في خطاب المولد النبوي.. إحياء الخطاب السياسي لأنصار الخلافة الإسلامية
يحسب المرء حين يرى هذه السلوكيات المتنافرة أنه يتعامل مع جسد مصاب بمتلازمة الدماغ المنفصم، أحد شقيه عسكري لا هوادة لديه مع الطاعنين في سلامة الوطن وحياة أبنائه، والشق الآخر إسلامي تسكنه هواجس مسنة نحو أيام “سادتي بني عثمان” كما يسميهم عبد الله رشدي، الواعظ الهامشي الذي استحال إلى ظاهرة صادمة لا تنصاع للتصنيفات.
كما رأينا في تجارب إسلامية كثيرة، فإن مدى التشدد الذي تتسم به أي محاولة لتطبيق الشريعة يتناسب طرديًا مع حجم التضييق الذي يفرض على المرأة. لكن الخطاب الذي يقدمه عبدالله رشدي ينقل هذا التضييق من يد السلطة الدينية إلى أيادي عامة الشعب، المستعدة دومًا لتلقين “المتبرجات” دروسًا في التهذيب من خلال التحرش بهن!.
ربما يتمتم بعض رجال الدولة وهم يستمعون إلى مقاطع رشدي “حسنًا، هذا سيعلم بنات هذا الجيل بعض الأدب”. لكن كل قراء علم الاجتماع (بل ومتابعي السلوك البشري عن قرب) يدركون أن هذا “العنف الرمزي” يحتاج لأمد قصير من التجاهل وقدر بسيط من التفويض كي يستحيل إلى “إرهاب اجتماعي” منفلت.
هل انتقاد الأديان ضار للمجتمع؟ 5 أسباب تقول العكس | حاتم منصور
لن يطول الأمر، مع تضخم طبقة الشباب وإدراكهم لضيق المجال (بكل أبعاده) في بلد مكتظ مثل مصر، حتى تصبح حادثة التحرش الجماعي في المنصورة حدثًا روتينيًا لا يتصدر نشرات الأنباء. وعندها قد تراود بعضًا آخر من المسؤولين حسرة عميقة على إصلاح قد فات أوانه، وخطاب شعبي تخلت الدولة عن حقها في تسييره.
والواقع أن الدولة لا يمنعها أن تتصدى لهذه الخطوات – التي ستطيل من عمرها وتزيد من ثقة الشعب فيها – إلا بعض الجرأة المستحقة والإدراك الصحيح لدورها. فالدولة هي من يجب أن يتحكم بالخطاب الديني ويكيفه لخدمة الصالح العام، ولا يتركه معلقًا فوق رقبتها كسيف داموقليس الذي يرتهن من يجلس تحته لحياة من القلق والرعب.
خلاف شيخ الأزهر والخشت: مئتا عام من المساومة مع الدولة المصرية| خالد البري