باحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي
التراث الإسلامي السني يحمل وفرة من أحاديث فضائل الشام والقدس والمسجد الأقصى باعتباره مسرى النبي محمد، وذم العراق التي كانت معقل التمرد والحركات الثورية الشيعية التي استمرت حتى بعد انتصار العباسيين وانتقال الحكم إلى بغداد، وأغلب رواة تلك الأحاديث من بلاد الشام ذات الهوى الأموي.
كرد فعل، انتشرت مرويات في التدوين الشيعي والإمامي خصوصًا بشقيه الإسماعيلي والاثني عشري لتحطيم مقدسات الشوام مقابل رفع المقدسات الشيعية العراقية في النجف وكربلاء.
استفاضت مرويات الشيعة في ذم الشام وأهله، وتفضيل الكوفة وكربلاء على القدس، منها ما جاء في الكافي للكليني: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: “أهل الشام شر من أهل الروم وأهل المدينة شر من أهل مكة وأهل مكة يكفرون بالله جهرة”.
ويلاحظ في المرويات الشيعية إحلال الكوفة محل القدس في مرويات أهل السنة، وأشهرها حديث شد الرحال، فورد في كتاب الخصال للشيخ الصدوق وسائل الشيعة: “لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد رسول الله، ومسجد الكوفة”.
ومما ورد في بحار الأنوار للمجلسي:
واعتبرت مرويات أخرى تسحب مسجد الكوفة محل المعراج في السماء، ومقر صلاة ودفن الانبياء. منها ما ورد في كتاب الكافي للكليني:
وما جاء في كتاب وسائل الشيعة: عن أبي بكر الحضرمي قال: “قلت لأبي جعفر الباقر عليه السلام: أي البقاع أفضل بعد حرم الله وحرم رسوله؟ قال عليه السلام: الكوفة! يا أبا بكر.. هي الزكية الطاهرة، فيها قبور النبيين والمرسلين وغير المرسلين، والأوصياء الصادقين، وفيها مسجد سهيل! الذي لم يبعث نبيًا إلا وقد صلى فيه، وفيها يظهر عدل الله، وفيها يكون قائمه، والقوام من بعده، وهي منازل النبيين، والأوصياء الصالحين”.
وصرفت مرويات الناس عن زيارة المسجد الاقصى لصالح مسجد الكوفة. منها ما ورد في كتاب الغارات للثقفي: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام وهو في مسجد الكوفة فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فرد عليه، فقال: جعلت فداك إني أردت المسجد الاقصى فأردت أن اسلم عليك وأودعك. فقال له: وأي شئ أردت بذلك؟ فقال: الفضل جعلت فداك. قال: فبع راحلتك وكل زادك وصل في هذا المسجد، فإن الصلوة المكتوبة فيه حجة مبرورة والنافلة عمرة مبرورة.
ألغاز تراثية (3): بين معراج النبي محمد و معراج النبي موسي.. لغز ليلة 27 رجب | هاني عمارة
المرويات السابقة لم تكن لتصنع إشكالية لدى الشيعة حتى مع ظهور قضية فلسطين؛ إذ بدأت قومية دون حضور في الحالة الشيعية، ربما لانزواء المدارس والحوازات بمعزل عن الشأن السياسي العام، وغلبة المد القومي بين أوساط الشيعة، حتى اندلعت الثورة الإيرانية.
شكلت فلسطين حجر الزاوية في الدعاية للنظام الإيراني وتصدير الثورة، بما تطلب استدعاء النصوص الروائية الشيعية التي توافق ما لدى أهل السنة حول فضائل القدس.
لم يمر الأمر مرور الكرام؛ إذ أدت الثورة الإيرانية وبروز الأصولية الشيعية لاستدعاء خلاف شيعي قديم بين الأصوليين والإخباريين.
تبنى النظام الإيراني فكر الأصوليين بعد تدعيمه بأفكار الإسلام الحركي المتمثل في جماعة الإخوان، والذي انتقل اليهم عن طريق جماعة فدائيان إسلام الجناح الشيعي القديم لحركة الإخوان، والتي تبنت خطًا يبدو ظاهرًا إصلاحيًا في سبيل التقريب، بما يشمل رفض بعض العقائد والمظاهر والطقوس الشيعية التي تثير استياء أهل السنة وتحول دون نشر المذهب، لا سيما التي أضيفت في العهد الصفوي، كما حاولت التخلص من عبء المرويات الكثيرة التي أدى انتشار الطباعة إلى إعادة استدعائها في الصراع السني الشيعي.
بالمقابل، رفضت مدرسة الإخباريين هذا التوجه، وأصرت على التمسك بالمذهب الشيعي الإمامي في صورته النهائية التي استقرت في العصر الصفوي، واصطلح على تسميتها بالمدرسة الشيرازية.
الصراع بين التوجهين مستمر إلى الآن، وهو شبيه بشكل غريب يكاد يكون متطابق بين صراع الإسلام الحركي والسلفية الوهابية في الحالة السنية.
نخلص مما سبق إلى أن مركزية القدس هي تحول طارئ محدث في الأصولية الشيعية المعاصرة التي تبناها النظام الإيراني بما لا يتوافق مع التدوين الشيعي؛ سعيًا لخدمة مشروع الهيمنة وتصدير الثورة، وخلق ذريعة للحرب على الأنظمة العربية وتشكيل المليشيات الموالية لإيران.