المعجزة العربية: كيف بناها الانفتاح على العالم وخنقتها الأصولية

لعل أول الافتراضات التي يفخخها ماكس فانتاجو في كتابه المعجزة العربية أن كثيرين من العلماء والمفكرين الذين صاغوا الحضارة العربية بشكلها المعروف إلينا حاليًا كانوا من أصول غير عربية.

لا يحسب ماكس فانتاجو ذلك موطن ضعف، وإنما دليل على قدرة اللغة العربية على اختراق ثقافات أخرى، مثلما حدث في حالة كتاب ألف ليلة وليلة في القرن السابع عشر، وكيف أثّر على مدارات الغرب المُشبعة بالتأثيرات اليونانية والرومانية. يعبّر مؤلف المعجزة العربية عن ذلك فيقول:

اللغة العربية هي لغة الحرية العليا، ووحي الحب، والرغبة التي تطلب إلى الله، من خلال الدموع، أن يكشف عن وجهه الكريم

قبل الإسلام لم يكن الخواء

يدحض ماكس فانتاجو النظرية التي تقول بأن العرب قبل الإسلام كانوا مجموعة من الرعاع الفقراء الذين يتغذون على الألبان، ويؤرخ لأنهم كانوا أثرياء بفعل التجارة مع الهند. وإن كانت الثقافتان الفارسية واليونانية أثرتا على العرب في تلك الفترة، لكن هذه التأثيرات ستزول في وقت ما؛ لأنه في عام 637 سيهزم العرب الجيوش الفارسية وسيلقنون الامبراطورية اليونانية درسًا معتبرًا.

الحروب لا تسيل الدماء فقط، إذ تنقل الثقافات أيضًا. فبعد الانتصار على الامبراطورية اليونانية (الروم البيزنطية)، انتقل محل الخلافة من المدينة إلى دمشق، وغيّر ذلك كثيرًا في أساليب الإدارة. وبعد أن كان الخلفاء يستعينون في المدينة بالفرس، استسلم معاوية ومن بعده خلفاؤه في دمشق للعادات اليونانية؛ فحولوا جمهورية المدينة الدينية العربية إلى إمبراطورية حقيقية سورية، وضربوا الدنانير الذهبية على طريقة الدراهم البيزنطية، وجعلوا الخلافة وراثية بعدما كانت انتخابية، واستعملوا عمالًا من اليونانيين والسوريين، كما أسندوا إلى المسيحيين مركز الوزير الأول.

في ذكرى معروف الرصافي.. هل حان الوقت لمراجعة قرار منع كتابه الشخصية المحمدية؟ | مارك أمجد

انسيابية العربية

انتشر الإسلام كدين وليد بسرعة جعلته دومًا موضع اتهام: هل تفشى بين الأمم بفعل السيف أم التجارة؟ أما ماكس فانتاجو فيرصد نقاطا مختلفة؛ مثل جمع الإسلام لمزايا الدينين السابقين له، بالإضافة إلى الإعفاءات الضريبية.

يؤكد فانتاجو أن الحركة الحربية للإسلام كحضارة لم تتعارض مع الإسهامات الفكرية. وإن كان فلاسفة الإسكندرية وقتها هاجروا إلى بيزنطة، فالأطباء بقوا فيها ومن بينهم بولس الأوجيني الذي تُرجمت مؤلفاته إلى العربية، وغيره من الأطباء الأجانب الذين تهافت عليهم أعيان العرب لاستشارتهم في الأمور العلمية وعهدوا إليهم بتربية شبابهم، بغض النظر عن دينهم إن كانوا مسيحيين أو يهودًا.

أضف إلى ذلك أن دمشق وأنطاكيا والرها احتضنت مدارس يونانية صغيرة. وفي كل هذه البلاد تمتع النسطوريون المسيحيون بحرية دينية وتقدير أكاديمي، وحتى الأساقفة أُسندت إليهم بجانب وظائفهم الدينية، وظائف طبية وهندسية.

معجزات الأديان والأجناس (1) | جورج طرابيشي: لماذا اختلفت معجزة النبي محمد؟ | مارك أمجد

اقتباسات هندية ويونانية

يقول فانتاجو إن العرب تعرفوا على النظام العشري الهندي بفضل التجارة مع الهند، ليدخل النظام للجزيرة العربية، ويُقبِل العرب على استخدامه؛ لأن القرآن لم يمنحهم نظاما بديلًا.

كذلك نُقلت مؤلفات أرسطو إلى العربية في مدرسة رأس عين اليونانية القديمة في سوريا. وفي النهاية، قام العرب بالمهمة التي فشل الساسانيون في إتمامها، وهي المزج بين العلوم اليونانية والهندوكية.

هارون الرشيد بالذات تلامس مع الثقافة اليونانية، وكان على علم بأن الموسيقى العربية التي ينسجم معها كانت مُستخلصة من الموسيقى اليونانية، وأن الأطباء الذين يأتمنهم على صحته يأخذون علومهم من الكتب اليونانية.

كذلك المأمون أرسل لليونان والهند بعثات لشراء كل المخطوطات التي يمكن الاستفادة منها. واهتم بحركة الترجمة بشكل مبالغ فيه، لدرجة أنه أفرد للمترجمين مرتبات خاصة وجوائز تشجيعية، وأسس عام 830م بيت الحكمة، ومعظم العاملين به كانوا من المسيحيين النساطرة ذوي الدراية الجيدة باليونانية والعربية والسريانية، وتخرجوا في مدرسة “جندي سابور” الطبية.

وربما شكّل عند المأمون ذلك الانفتاح على الآخرين كونه تربى على يد طبيب مسيحي اسمه حنا الماسوي.

ويرى ماكس فانتاجو أن العرب في عصر هارون الرشيد والمأمون والخوارزمي استطاعوا مزج ثقافتهم بالمعارف اليونانية والهندوكية، وعرفوا فيه أهمية الجبر والكيمياء، وهو ما يعرفه بــــ “عصر المعجزة العربية”.

المسيح خارج الأناجيل: كيف تخيل الروائيون شخص يسوع الإنساني؟ | مارك أمجد

العلوم والشيطان

كانت كلمة الفلسفة لها وقع الشر على أسماع العرب. ثم تأسست جمعية إخوان الصفا التي نشرت العديد من الأفكار بطريقة حكيمة معتدلة، وظهرت جماعة “المناقشين” وشرعوا في مقارنات الأديان بحرية واحترام، فكان يحضر اجتماعاتهم مسلمون سنة وشيعة ومسيحيون ويهود وملحدون ومفكرون أحرار وماديون، وكانوا يشترطون في بداية كل جلسة الرجوع للعقل الإنساني فقط، وليس لكتاب مقدس أو لنبي بعينه.

لكن هذه الاجتماعات لم تمنع المسلمين الأصوليين من الشعور بالحنق تجاه مؤلف أو كتاب ما يتهمونه بالزندقة، وكان يحدث من حين لآخر أن يضطر الخليفة لإحراق مخطوطة كتاب، وأمور أفظع من ذلك كي تهدأ الأوضاع.

على الجانب الآخر، يُحسب للفاطميين أنهم بنوا مرقبًا أنجز فيه ابن يونس الفلكي نجاحات هامة في علم المثلثات، واجتذبوا العلماء المشهورين وعلى رأسهم ابن الهيثم. كما أسسوا في القاهرة جامعة الأزهر عام 978 م ويعتبرها ماكس فانتاجو سيدة الجامعات المعاصرة لولا أخطاء صدرت عن بعض القائمين عليها.

وهو يصف المعجزة العربية الفكرية من وجهة نظره قائلًا:

انتشرت من الشرق إلى الغرب، من حلب إلى بخاري، من القاهرة إلى قرطبة، بفضل انقسام الإمبراطورية. فأسست في كل مكان مدارس وجامعات ومكتبات شاعت فيها حيوية مثيرة.