باحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي
الآيات الأولى من سورة النساء تناولت الحديث عن أحكام اليتامى، ومهر المرأة، وتقييم الميراث.. القاسم المشترك بين كل تلك الأمور كان المال.
لكن الحديث عن اليتامى حمل جملة اعتراضية، بدت خارج السياق، فسرت كتشريع لتعدد الزوجات: “وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا”.
السؤال قديمًا وحديثًا كان: ما علاقة تعدد الزوجات بالخوف من ظلم اليتامى؟ ما معنى تعدد الزوجات كشرط في حال الخوف من ظلم اليتامى في أموالهم؟
الطبري، وهو من أقدم المفسرين، قدم ثلاثة تفسيرات للآية. لكل تفسير منهم وجاهته:
ذكره عن السيدة عائشة، ومفاده أن المقصود بالآية الفتاة اليتيمة التي يرغب وليها القائم على أموالها في الزواج منها رغبة في ضم مالها إلى ماله. لكن التشريع نهى عن ذلك خوفًا من الظلم، فأمام الولي من النساء الأخريات ما يمكنه أن يتزوج منهن ما يشاء حتى أربع.
يدعم هذا التفسير ورود أيات في أواخر سورة النساء ذكرت المسألة تحديدًا بمثل ما قالت السيدة عائشة، وهي: “وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ” ثم ذكر بعدها بآيتين مسألة العدل بين الزوجات “ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم”.
وهو الذي مال إليه الطبري نفسه، باعتباره تشريعًا “يقصر” حد التعدد إلى أربع زوجات فقط مخافة الجور على أموال اليتامى من أجل تزوج المزيد من النساء.
وعلى هذا التفسير يكون المقصود وارد بنفس المعنى من الخوف من الجور على مال اليتامى في قوله: “وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم” ويدعم هذا أن زواج ملك اليمين اليتيمة لا نفقة فيه.
هو مثال معاملة اليتامى والعدل في أموالهم كمعاملة الزوجات والعدل بينهن، بمعنى أن خوف العدل في أموال اليتامى يشبه خوف العدل في بين الزوجات.
وكل هذه التفسيرات تتعامل مع التعدد كعادة قائمة شأنها كشأن العبيد. والادعاء أن النص شرع التعدد وأوجبه مبالغة لم يقل بها أحد من السلف.
زواج المسلمة من غير المسلم | لماذا أباحه اﻹخوان في أوروبا؟ | هاني عمارة
ملاحظة أخرى ملفتة يطرحها هذا الربط بين تعدد الزوجات والأموال، هو أن التعدد كان مرتبطًا بالملوك والأعيان والأشراف في مجتمع القبيلة، أما آحاد العوام فالسائد أنهم لا يعددون.
وما يدعم هذا التصور أن المسلمين الأوائل في العهد المكي لم يعرف عنهم التعدد إلا نادرًا، فالنبي محمد نفسه لم يتزوج سوى السيدة خديجة، ولم تعرف عن عمه أبي طالب سوى زوجته فاطمة بنت أسد، وكذلك عديد من الصحابة في الفترة المكية الذين عرفوا فيما بعد بالمهاجرين.
في هذا الإطار يفهم ممارسة تعدد الزوجات بشكل عملي في مجتمع المدينة بداية من الرسول نفسه وكبار الصحابة كتحول اجتماعي مرتبط بتحولهم إلى سادة وأعيان أصحاب أموال.
ثمة تحول آخر يضاف إلى ما سبق، وهو تحول المجتمع إلى مجتمع محارب بما نتج عنه كثرة الأرامل واليتامى، وخلل نسبي بين نسبة الذكور والإناث.
ومنه يفهم لماذا كان تعدد الزوجات منتشرًا بين اليهود في نفس الوقت، بينما لم يكن منتشرًا بين المسيحيين؛ ذلك لأن المجتمع اليهودي كان مجتمعًا حربيًا، بينما نشأ المسيحي في كنف سلطة مستقرة.
وقد تطور الأمر لاحقًا لدى التابعين والخلفاء حتى وصلنا إلى زمن الدولة العباسية حيث جيوش الجواري في قصور الخلفاء، وما يروى من قصصهن ودسائسهن المبثوثة في كتب الأدب.
ألغاز تراثية (7)- زواج المتعة بين السنة والشيعة.. خلاف سببه الدوافع السياسية | هاني عمارة
الفقه والتشريع استقرا على جواز تعدد الزوجات على أربع، واعتبرا أن زواج الرسول بأكثر من ذلك حالة خاصة به.
وروريت بعض الآراء الشاذة التي أجازت تعدد الزوجات حتى تسع أو بإطلاق. لكن لم يؤخذ بها أو يقرها أي من المذاهب المعروفة، ويلاحظ في أقوال الفقهاء ميل كثير منهم إلى أفضلية الاكتفاء بواحدة، وهو المنقول في مذهب الشافعية والحنابلة.
النظرة العامة للتعدد وكثرة النساء في كتب التاريخ والأدب سلبية، كمظهر من مظاهر الترف والبذخ. ويطلق على الرجل كثير الزواج “مزواجًا” على سبيل الذم غالبًا. منها ما ورد في “أمالي القالي” عن أحد الأعراب منشدًا:
تزوجت اثنتين لفرط جهلي … بما يشقى به زوج اثنتين
فقلت أصير بينهما خروقًا … أنعم بين أكرم نعجتين
فصرت كنعجة تضحي وتمسي … تداول بين أخبث ذئبتين
وتروي الأخبار عن صراعات زوجات الخلفاء والملوك من أجل السلطة والمال من أجل تمكين أبنائهن. لعل أشهرها ما روي أن الحسن بن علي كان مزواجًا، وقتل بعد أن دست له إحدى زوجاته السم. وما روى عن صراع الأمين والمأمون، ابني هارون الرشيد، ودور والدة كل منهما في ذلك الصراع.
ألغاز تراثية (8) | محنة الإمام مالك.. لماذا يخالف فقه الطلاق نص القرآن؟ | هاني عمارة
مالت المجتمعات الحديثة إلى منع تعدد الزوجات. وسنت في ذلك القوانين في الغرب. وبرغم أن الأمر له جذور في المسيحية، إلا أن المدنية الحديثة أعادت تأسيسه مع إعادة تعريف مفهوم الزواج كشراكة اجتماعية، وليست كقيم أو تبعية بالمفهوم الشرقي.
كما ساعد المد اليساري التقدمي في شقة الاجتماعي، الذي شدد كذلك في منع تعدد الزوجات كظاهرة طبقية أرستقراطية تضاد العدالة الاجتماعية وتبخس حقوق المرأة واستقلالها.
بالتوازي، شهدت المجتمعات الإسلامية تحولًا موازيًا نحو تمدين المجتمعات الإسلامية قلل كثيرًا من ظاهرة تعدد الزوجات حتى أصبحت قاصرة على الريف والمناطق القبلية.
وحتى الخطاب الديني الرسمي لم يحتف كثيرًا بالتعدد، وإن برره كضرورة، كما نقل عن الشيخ محمد عبده الذي رأى أن تعدد الزوجات كان ظرفًا تاريخيًا مرتبطًا بالحروب وكثرة الأرامل، وأنه يجوز للحاكم أن يمنعه إن رأى في ذلك مصلحة، وهو الرأي الذي يميل له الكثير من المعاصرين والقرآنيين.
مع تصاعد ما يسمى الصحوة الإسلامية، أعيدت مسألة تعدد الزوجات مجددًا، لكنها أخذت طابعًا أيديولوجيًا هذه المرة.
وبالرغم من أن الدفاع عن تعدد الزوجات جاء من منطلق أساسي هو فكرة الدفاع عن الإسلام والرسول باعتبارها شبهة حداثية، غير أن الدفاع لم يقتصر على تنزيلها كممارسة اجتماعية كانت شائعة في ذلك الزمان، وهو كفيل بإبطال الشبهة، فوصل إلى حد وصفها بالإعجاز العلمي، من منطلق صلاحية التشريع لكل زمان ومكان، واستقرار جواز التعدد في قوانين الأحوال الشخصية في معظم البلدان الإسلامية.
رجال المؤسسة الدينية الرسمية وحتى التيارات الإسلامية الوسطية تكاد تقتصر على فكرة أن التعدد جائز، وبعضهم يجيزه للضرورة كدفاع نظري، أما على مستوى الممارسة فهو محدود جدًا.
أما التيار السلفي فكان الأكثر تطرفًا في هذه المسألة، فقد حولها لأيديولوجيا اجتماعية واقتصادية وسياسية، وممارسة منظمة تتجاوز مسالة الحل والحرمة، لدرجة تتشابه مع السلوك الشيعي قديمًا في تقنين زواج المتعة واعتباره فضيلة دينية.
1 – اعتبار تعدد الزوجات تشريعًا وسنة، وأنه هو الأصل.
2 – تشجيع النساء على تقبل التعدد، بل والاشادة بفكرة قيام الزوجة بالخطبة لزوجها، حتى وجدنا من النساء السلفيات من تتبنى القضية، وتؤلف لذلك الكتب، وتتباهى إحداهن بالخطبة لزوجها.
3 – اعتبار التعدد إحدى وسائل تكثير النسل كأحد وسائل الانتشار والغلبة لفئتهم في المجتمعات.
4 – اعتبار مجتمعات التعدد بديلًا لمجتمعات الاختلاط والعلاقات والصداقة بين الرجل والمرأة، حيث يحرم التيار السلفي الاختلاط بإطلاق.
ويبرز هذا في الخطب والكتب التي يصدرها شيوخ السلفية. ويعتبر محمد اسماعيل المقدم الأكثر اهتمامًا بهذه المسألة، حيث يعتبر التعدد حلًا لكثير من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية.
وانتشر التعدد بينهم بشكل يفوق مجرد الضرورة. ويتباهى شيوخهم بتعدد زيجاتهم، ويحثون أتباعهم عليه، وأنشأوا لذلك مؤسسات.
حتى أصبحت اخبار زيجات وطلاقات شيوخ السلفية تنافس زيجات وطلاقات المشاهير التي يسخرون منها باعتبارهم شهوانيين.