العلاقة بين العلم وحكي القصص ليست دائمًا على وفاق. العلم، من ناحية، هدفه حل مشكلات الإنسان، أما القصص فهي تُبنى وتستثمر في تلك المشكلات.
ما من فيلم بدون قصة وما من قصة بدون عقدة، وما من عقدة بمعزل تام عن الحالة الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية التي يعيشها البشر في مدة زمنية معينة.
وفي العقود الأخيرة، حدثت قفزات هائلة في العلوم بفروعها عمومًا، وتكنولوجيا المعلومات بصفة خاصة، ساهمت في تغيير نمط حياتنا، لدرجة تجعل من المستحيل تقبّل بعض الحبكات الدرامية والتيمات التي قامت عليها أعمال سينمائية معاصرة سابقة لتلك التطورات.
لنركز على التطور الرقمي، وتحديدَا ثورة الهواتف الذكية والتطبيقات ومواقع التواصل الاجتماعي، وكيف يمكنها بمعطيات اليوم نسف تيمات وأفكار قصص عديدة من الأفلام. بعض هذه الأفلام ليست بالغة القدم، ولا يتجاوز تاريخ إنتاجها 20 سنة مضت.
كم فيلمًا شاهدناه عقدته الأساسية بطل يحلم بالفرصة لبلوغ المجد وإيصال موهبته الفنية للجمهور؟ تلك التيمة كانت مفهومة في عصر تسيطر فيه شركات الإنتاج الكبرى على سوق السينما والموسيقى، كان المطربون بحاجة لتصريحات نقابية وإذاعية ومُكتشف ليتمكنوا من الغناء للعامة، لكن الآن أصبح الأمر أكثر بساطة.
في فيلم مثل “إسماعيلية رايح جاي”، يعاني إبراهيم كي يصل صوته لعزت أبو عوف ويمنحه الفرصة للغناء في حدث ضخم، أما الآن فكل ما يحتاجه إبراهيم هو جهاز كمبيوتر وميكروفون واشتراك إنترنت. هذه التيمة متكررة في أفلام المطربين، “شارع الحب”، “معبودة الجماهير”، “رحلة حب”، “حالة حب”.
في فيلم “رشة جريئة” تعرض الممثل الهاوي “سلماوي” (أشرف عبد الباقي) لاعتداء جنسي من مخرج سينمائي ليعطيه دورًا في فيلمه، بينما الآن فكل ما على سلماوي فعله هو تصوير بعض المقاطع المضحكة عبر هاتفه، يبرز فيها موهبته، يحصد الإعجابات والانتشار ثم يلهث وراءه المخرجون، مع تجنيبه قدر من المضايقات والتنازلات.
أما في فيلم “سمع هس”، فالصراع على ملكية اللحن بين المطرب صاحب النفوذ “غندور”، والصعاليك “حمص” و”حلاوة” كان ليصبح محسومًا بواسطة تاريخ طرح الأغنية المدوّن إلكترونيًا على الإنترنت. وموقع YouTube الأقوى من الشهر العقاري قد يكون الجهة الوحيدة التي سيفشل غندور في رشوتها أو تهديدها.
تأثير مانديلا في السينما.. ذاكرة مزيفة أم إبداعية؟ | أمجد جمال
التغيير الذي أحدثته التكنولوجيا الرقمية على حياتنا شمل الحياة الاقتصادية والمهنية، هناك أفلام قديمة تنبأت بأن يفقد بعض البشر وظائفهم لصالح الآلة أو الروبوت، ويبدو أن النبوءة تتحقق لدرجة ما. هناك وظائف تنحسر وأنشطة تجارية لم تعد موجودة، وبالتالي فعدد من الأفلام التي تقوم على وظيفة الشخصية الرئيسية لم تعد صالحة لتصنع من جديد.
فيلمان من ظواهر الكوميديا الرومانسية الهوليوودية في الـ 20 سنة الأخيرة، High Fidelity وNotting Hill. الأول بطله يعمل ويعيش معظم حياته داخل متجر بيع أسطوانات الأغاني، ويتذكر من خلالها علاقاته العاطفية الفاشلة.
أما الثاني فبطله بائع في متجر للكتب السياحية والقديمة، تتغير حياته عندما يقابل نجمة السينما العالمية في أغرب مكان ممكن، وهو متجره.
إذًا، فالعملان قائمان على وظيفة البطلين التي لم تعد موجودة، أو لنقل ليست شائعة في يومنا، بسبب تطبيقات الأغاني وKindle للقراءة. والمؤكد أن المشاهير لم يعودوا بحاجة لزيارة تلك الأماكن.
أيضًا، مهنة السائق، وإن ظلت موجودة، فالمؤكد أنها شهدت هزة قوية، سواء في طبيعة الوظيفة أو مناخ العمل، بظهور تطبيقات التوصيل المختلفة. عدد من الأفلام المهمة قامت على مهنة سائق التاكسي مثلًا، لكن سائق “أوبر” يلزمه حبكات مختلفة!
الثورة الصناعية الرابعة.. هل يرث الذكاء الاصطناعي وظائف البشر كليًا؟ | س/ج في دقائق
قصة المونتاج.. الفن الذي ميّز السينما عن بقية الوسائط | أمجد جمال
معظم أفلام الإثارة والرعب تلعب على نقطة المجهول، والمجهول في يومنا أقل من المجهول قبل سنوات. الهواتف الذكية جعلت المعلومة أسرع، وانتقلنا من عصر التقليب في الموسوعات والقواميس والخرائط وقواعد البيانات الورقية الضخمة ودليل الهواتف إلى ضغطات قليلة لا تتخطى بضع دقائق.
في فيلم Psycho 1960، البطلة تسرق مبلغًا من المال وتذهب في رحلة طويلة بالسيارة، ما يضطرها للتوقف ليلًا والمبيت في أحد الفنادق، يتضح بعدها أن الفندق يدار بواسطة شخص معتوه وقاتل. لم تكن “ليلا” لتختار هذا الفندق لو استخدمت هاتفها في قراءة التقييمات وتعليقات الزوّار السابقين على تطبيقات حجز الفنادق وهي بالعشرات. حتى ولو افترضنا أن مالك الفندق قتل كل نزلائه ولم يتبق منهم على قيد الحياة أحد ليكتب مراجعته، يظل اختفاء المراجعات والتقييمات بحد ذاته سببًا كافيًا من سيدة وحيدة تملك في حقيبتها مبلغًا كبيرًا كي تراجع قرارها.
في واحد من أشهر أفلام الرعب في حقبة التسعينيات، I Still Know What You Did Last Summer، فتاة تفوز برحلة سياحية إلى جزر البهاما، بعدما أجابت على سؤال في مسابقة هاتفية مزيفة، أراد القاتل المسلسل استدراجها فصنع لها هذا الفخ المحبوك بمنطق عصره، فالسؤال كان عن عاصمة البرازيل وهي “برازيليا”، لكن البطلة أجابت بالخطأ “ريو دي جانيرو”، ورغم ذلك يخبرها القائمون على المسابقة بأن إجابتها صحيحة وفازت بالرحلة! من المضحك قول هذا، لكن الفخ كان من السهل تفاديه لو استخدمت محرك بحث جوجل!
أنجح 10 أفلام رعب في التاريخ |حاتم منصور
أحمد زكي.. كيف استحق اعتذار روبرت دينيرو عن “زوجة رجل مهم”؟ | أمجد جمال
ستان لي وأفنجرز.. رحلة التحديات من الورق إلى السينما |حاتم منصور
LEAVING NEVERLAND.. قضية مايكل جاكسون: السينما قاضٍ والجمهور هيئة محلفين | أمجد جمال
لسنوات طويلة كان من الصعب الوصول للجماهير بخطاب تحريضي أو إعلامي أو إرشادي، فأدوات الوصول كانت حصرية إما على الحكومات أو رأس المال أو خاضعة تمامًا لرقابة السلطات بأنواعها. وهناك أفلام قامت على تحدي الاحتكار الإعلامي بطرق لم يعد لها محل من الإعراب الآن.
في فيلم “القاهرة 30” إنتاج 1966، لم يكن على الشاب المناضل “علي طه” الحشد ضد فساد الحكومة والملك عن طريق توزيع المنشورات الورقية، أو الصحف المستقلة (شكليًا)، بل كان يكفيه تدوين #هاشتاج على أحد مواقع التواصل. الأمر نفسه ينطبق على أفلام تناولت نفس الفترة من المنظور السياسي.
في فيلم “شباب على الهواء” إنتاج 2002، يقرر مجموعة من الأصدقاء إنشاء قناة تلفزيونية مستقلة وبلا ترخيص لبث محتوى إعلامي مغاير يحاول تسليط الضوء على المشكلات بمصداقية أعلى، لكن الأحداث تتفاقم بدخولهم في مواجهة بين عصابة خطرة من جهة، والسلطات من جهة أخرى. المشكلة أبسط لو أنشأوا قناة على موقع YouTube!
في فيلم “أصحاب ولا بيزنس”، يخطط البطل لبث شريط صوّره في الضفة الغربية لشاب يفجر نفسه وسط قوات الاحتلال. من أجل ذلك يقوم بمخاطرة أشبه بالسطو على ستوديو المحطة التلفزيونية التي يعمل لديها. الآن بسهولة تُرفع تلك المواد المصورة على مواقع السوشال ميديا، مع إمكانية تجهيل المصدر دون مخاطر، بل وتحتل التريند سريعًا، وتتهافت القنوات التلفزيونية التقليدية (مثل التي كان يعمل بها البطل) متطوعة فيما بعد لنقل المادة عن مواقع التواصل.
أفضل طرق اختيار عنوان لفيلمك، وأنجحها في تاريخ السينما | أمجد جمال | دقائق.نت
هل خلود الفن معيار لجودته؟ خمس ثغرات لهذه النظرية | أمجد جمال | دقائق.نت
10 سنوات على توم وسمر.. من الظالم والمظلوم؟ | أمجد جمال | دقائق.نت
التواصل أو الاتصال أو الوصول أو المراقبة أو التتبع، كلها حالات متنوعة لاختزال المسافات بين البشر فيزيائيًا واجتماعيًا وزمنيًا.
الآن وبخلاف سنوات مضت، يسهل الادعاء بأن هناك خطًا مباشرًا أو غير مباشر يربط أفراد المجتمع وبعضهم، وبذلك تم تذليل صعوبات وصراعات قامت عليها قصص.
الفيلم الرومانسي الكوميدي You’ve Got Mail، من أشهر الأفلام في تناول فكرة الحب عبر المراسلة الإلكترونية، وتحديدًا رسائل البريد الإلكتروني. البطل والبطلة أعداء في الواقع، لكنهما يقعان في الحب عبر الإنترنت وبواسطة أسماء مستعارة وقبل أن يعرف أحدهم شكل الآخر. والعقدة هنا قائمة على ثغرة التواصل التي تصنع خللًا معرفيًا يهدد العلاقة أو يصنع المفارقة.
الآن لا يتعارف الناس بهذا الشكل العائد لزمن غرف الدردشة، ومن النادر أن يوافق طرف على مقابلة الآخر دون أن يرى وجهه على الأقل، ناهيك عن الاطلاع على حساباته وبياناته ونشاطاته العامة في مختلف حساباته الإلكترونية. في عالم اليوم لو رأت “كاثلين” صورة “جوي” وهي تقلب في تطبيق مثل Tinder، فالمؤكد أنها لن تعطيه نصف فرصة.
في فيلم “حياة أو موت” إنتاج (1954)، أخطأ الصيدلي في تركيبة الدواء بعد بيعها، وتواصل مع الطبيب كاتب الروشتة ليستعلم عن بيانات المريض “أحمد إبراهيم” فيحذره من تناول العقار، لكن المريض سبق وأن انتقل ليعيش في حي آخر هو “دير النحاس”، وبعد فشل كل محاولات الشرطة في تتبع أحمد يلجأوون لرسالة عبر الإذاعة “لا تشرب هذا الدواء فيه سم قاتل”. العقدة كانت أيسر بكثير لو امتلك أحمد هاتف محمول، مسجل رقمه ضمن البيانات عند الطبيب كاتب الروشتة كما هو شائع الآن.
تيمة التواصل يمكن تطبيقها على معظم الأفلام التي تتناول التجسس والمراقبة بأنواعها، والمراقبة اليوم لم تعد تستلزم جهدًا شاقًا وأدوات معقدة. نحن نراقب أنفسنا بأنفسنا، ونسلم بياناتنا طوعًا لمحركات البحث وتطبيقات الهاتف والـ GPS.
توصيل أجهزتك بالإنترنت أخطر من ترك باب منزلك مفتوحًا!
صعوبة إنتاج تلك الأعمال في عصرنا لا يعني أنها ليست صالحة للمشاهدة الآن، لسببين؛
أولًا: هكذا تكشف السينما عن قدراتها كمؤرخ تلقائي للأزمان.
وثانيًا: التيمات هي مجرد أداة للتعليق ضمنيًا على ما هو أبعد، وليست إلا قشرة للقصص.
بالتأكيد الأزمة التي تؤرق محمد أمين في “فيلم ثقافي” ليست مشاهدة الفيلم الإباحي، بل الأعم وهو الكبت الجنسي، موضوع قد لا يقف التعبير عنه مهما تقدمت التقنيات الرقمية.
والأزمة في You’ve Got Mail ليست الخلل في شكل المراسلة بقدر ما هي إدانة الأحكام الانطباعية عن البشر.
و”حياة أو موت” لا يشكو من ضعف وسائل الاتصال بقدر ما هو بيان يُعلي من قيمة الحياة الإنسانية.
الثورة الرقمية ربما أضرت بالقصص؛ لأنها قلصت جزءًا كبيرًا من النشاط الاجتماعي الذي يصنع القصص، واختصرته في كبسات الأزرار وشرائح السيليكون، لكن من التعسف إنكار أنها فتحت ميادين أخرى لخيالات كل قصاص عن الحياة في عصر كهذا.
صحيح، لم يعد بالإمكان تأليف قصة معاصرة بطلها عامل في “نادي الفيديو”، لكن بالإمكان تأليف فيلم عن الذكاء الاصطناعي وهو يقترب من تدمير العالم بعد أن دمر كل “نوادي الفيديو”.
أكثر المقولات إلهامًا حول صناعة الأفلام