كان والد جورج طرابيشي يملك مخزنًا في حلب/ سوريا، في منطقة الأسواق القديمة، يتردد عليه الصبي. وفي يوم سأله جار يمتلك مخزنًا مجاورًا لأبيه عن مشاريعه الدراسية في المستقبل. فقال له جورج إنه ينوي التخصص في الأدب العربي. علق الجار ساخرًا: “أنت مسيحي. ما دخلك بالللغة العربية وآدابها؟”. فخرج جورج طرابيشي عن هدوئه ورد بوقاحة: “لولا ما قدمه اللغويون المسيحيون في القرن المنصرم لكنا نتكلم الآن لغة عربية أشبه بالتركية”.
كان يمكن أن تكون هذه حادثة منفردة في حياة مثقف مسيحي كتب في التراث الإسلامي أكثر مما كتب أي من معاصريه باستثناء قلة. لولا أن اسمه جورج، الذي يستدعي فورًا المقارنة.
في سن السابعة عشرة، خرج جورج طرابيشي في مظاهرة تنديد بالاحتلال الفرنسي للجزائر، وكان ذلك قبل أيام من العدوان الثلاثي على مصر. انطلقت المظاهرة من الجامع الكبير في حلب، وشاركت فيها جموع غفيرة. ثم سرعان ما انقلبت الهتافات من هتافات ضد الاستعمار إلى هتافات ضد الفرنسيين الكفار والاستعمار المسيحي للجزائر.
اعترض جورج، كون المظاهرة يجب أن تندد بسياسة فرنسا الاستعمارية لا بدينها المسيحي. والنتيجة أنه تلقى نصيبه من اللكمات، حتى أنقذه رفاق حزبيون.
المظاهرة تطورت في ذلك الاتجاه، فاستهدفت “معهد المحبة” الذي يضم راهبات من جنسيات عدة، ثم اعتدى المتظاهرون على كنيسة المعهد وأسقطوا الصلبان وصور القديسين. ومن ثم انطلقوا إلى معهد الراهبات الفرنسيسكانيات. وانتشر الذعر في الأحياء المسيحية في حلب، حتى نزل الجيش.
في اليوم التالي، دعا وجهاء الطوائف المسيحية إلى اجتماع في مقر كاتدرائية الروم الكاثوليك في ساحة فرحات، وذهب جورج طرابيشي إلى ذلك الاجتماع. وفيه ارتفعت أصوات غاضبة تدعو إلى الاستنجاد بالغرب وإلى تدخل الأمم المتحدة لحماية المسيحيين. فما كان من جورج إلا أن وقف فوق كرسي وصاح بأعلى صوته: “لسنا بحاجة إلى قوة خارجية لتأمين حمايتنا، جيشنا الآن هو المسؤول عن أمننا …”. وقبل أن ينهي عبارته كانت أذرع قوية تنزعه من فوق الكرسي أرضًا ثم تنهال عليه ضربًا، لم ينقذه إلا صديق له قوي البنية اسمه أوكتاف فرّا.
حتى في السياسة، وفي خضم الصراع بين مصر وسوريا بعد الانفصال، وجد جورج طرابيشي أن صوت العرب تهاجم سوريا من خلاله. الإعلامي أحمد سعيد يقول في برنامجه اليومي “سوريا في الظلام”. “من يشرف على الإعلام في سوريا يا أخي؟ إميل شويري، جورج طرابيشي – وهو يمط في اسم جورج – وكمال بطرس ناصر.”
يقصد أن الثلاثة مسيحيون، كما تفسر السيدة هنرييت عبود في كتابها الصادر حديثا “أيامي مع جورج”، لدرجة أنه تعمد ذكر الاسم الثلاثي للشاعر الفلسطيني لكي يظهر اسم بطرس. كمال ناصر اغتيل بعد ذلك في بيروت على يد كوماندوز إسرائيلي.
في عمر الثالثة والثلاثين، أصيب بذبحة صدرية وهو بعد شاب. تقول زوجته هنرييت عبودي في كتابها إن حياة زوجها يمكن تقسيمها إلى ما قبل الذبحة الصدرية وما بعدها. حيث أودت هذه الذبحة الصدرية بعنفوانه، بأحلامه القيادية، وطموحاته السياسية.. واستمع إلى نصيحة صديقه الباهي محمد بأن سوريا لديها عشرات الآلاف من المناضلين، وفيها جورج طرابيشي واحد، فرجاء تخل عن النضال واهتم بالثقافة.
وكان هذا ما فعله بعد قيامته. وهذه هي الصورة التي عرفناه عليها.
لكنه، حتى هنا، تأكد مما لمسه من قبل. أن مشكلة المنطقة في عقلها الذي يفرز سلطتها السياسية. عقلها لا يزال طائفيًا ورجعيًا في جميع المستويات الاجتماعية.
حين قدم عمله الأكبر في نقد كتاب “نقد العقل العربي” لمؤلفه محمد عابد الجابري. كان تعليق الجابري “ما علاقة هذا المسيحي!!”
وحين التقى بالمفكر المصري عبد الرحمن بدوي وأخبره أنه يعمل على التراث الإسلامي كان رده: “انت مسيحي. فما دخلك في التراث الإسلامي؟!”
الكاتب المغربي سعيد ناشيد قدم بحثًا في جامعة الملك الخامس عن السجال بين صاحب كتاب نقد العقل العربي، محمد عابد الجابري، وبين ناقده، جورج طرابيشي، انتصر فيه لرأي الأخير. فما كان من أستاذ جامعي من بين المشرفين على البحث إلا أن قال له مستنكرًا: “كيف تنتصر لجورج على محمد؟!”
في كتاب هنرييت عبود المشار إليه سابقًا، أيامي مع جورج، كتب صديقه الأقرب، الليبي محمد عبد المطلب الهوني، عن حياة جورج، وتوقف بالذات عند هذا المحور من حياته.
“إن جورج قاوم طيلة حياته جينات القهر والتمييز التي تراكمت في أعماق المسيحيين كأقلية مشكوك في ولائها لدار الإسلام”.
وفسر الهوني هذا تفسيرًا تاريخيًا سياسيًا، امتد إلى الجيل المعاصر من المثقفين المسيحيين.
ففي العهد العثماني كان يجبر المسيحي على ترك ممشى الرصيف للمسلم والانحدار إلى نهر الطريق، ويُنَبه بكلمة “طورق” أي أفسح الطريق وأعط الأولوية للمسلم.
لذلك، والكلام للدكتور الهوني، كان احتفاء المسيحيين بولادة الدولة الوطنية كبيرًا؛ لأنهم توسموا فيها بشائر المواطنة والمساواة ونبذ الطائفية والعنف. ثم رأوا أحلامهم تتهاوى الواحد تلو الآخر.
قصة هذا المثقف المسيحي، الحالم بدولة وطنية تسمح له أن يكون مساهمًا في حضارتها، تحكيها زوجته في وقت نحتاج فيه إلى سماعها، حيث الخطر صار الانقلاب على الدولة الوطنية نفسها، بعد أن انقلبت هي سابقًا على قيمها، واسترضت دعاية أعدائها الداخليين من أهل التعصب، وظنت أن هذا لن يضرها.