باحث بجامعة لوزان - سويسرا
إلى جانب احتفال المسيحيين بعيد الفصح، يحتفل أعضاء مجموعة مونتي بايثون من أشهر كوميديانات بريطانيا هذا الأسبوع أيضًا بمرور العام الأربعين على بدء إذاعة واحد من أكثر الأفلام إثارةً للجدل في السينما.
الفيلم هو حياة برايان – Life of Brian من بطولة ممثلين كوميديين كبار في بريطانيا، مثل جون كليز ومايكل بالين وغيرهم، وهو جزء من سلسلة أفلام مونتي بايثون، والتي تقدم أهم الأحداث التاريخية بشكل ساخر لكنه عميق، مثيرة لتساؤلات عن معنى الحياة من خلال أهم رموز التاريخ. وفي هذا الإطار الكوميدي، يتعرض فيلم حياة برايان لواحدة من التابوهات الشهيرة وهي الدين.
برايان يهودي يعيش في زمن يسوع، وهو زمن حساس كثرت فيه محاولات التمرد على روما من خلال انتظار القائد الملهم (المسيا) كيهوذا الجليلي وغيره، فكانت إمكانية أن يُنظر إلى شخص ما على أنه ذاك المنتظر الذي يمكنه خوض معركة التحرير كبيرة، حتى وقع فيها بالصدفة شخص عادي جدًا وبسيط يُدعى برايان.
يحاول برايان أن يُثبت للناس أنه ليس المسيح، لكن المصادفات النادرة تعود لتؤكد للناس أنه هو!
وفي إطار حياته، يمر بكل المراحل التي يمر بها مسيحٌ يعيش في زمن يسوع.
أثار الأمر حفيظة متابعي الفيلم من المسيحيين المحافظين الذين رأوا في الأمر سخرية من حياة يسوع نفسه.
يعيش برايان فقيرًا مولودًا من أم بدون أب (مجهول النسب). تعترف له الأم أن أباه ليس من كان يظنه (كوهين) ولكنه جندي روماني، وهي واحدة من الشائعات التي كان اليهود في القرن الثاني ينشرونها عن يسوع نفسه (الطعن في أصله بنسبه لجندي روماني. المضحك في الأمر أن النازيين طوعوا الرواية اليهودية في مصلحتهم بالإدعاء أن الجندي كان جرمانيًا (ألمانيًا) وبالتالي صار يسوع آريًا، فتكون سخرية الأقدار أن اليهود والنازيين قد اتفقا على شيء.
يمر برايان على واقع منطقة اليهود المزري. يرى كيف أن يد الرومان غليظة، وكيف أن اليهود كانوا فقراء بشدة. يمر على مجموعات تاريخية حقيقية مثل المتمردين الرؤيويين الذين كانوا يقومون بعمليات قتل واختطاف للرومان من أجل تحرير اليهود فكانت نهايتهم الصلب، ومجموعات أخرى يقدم أفرادها أنفسهم كأنبياء على أبواب الهيكل يتكلمون عن نهاية العالم…
وفي حالة الفوران هذه، يُساء فهم برايان نفسه ويُزج به كمسيح! وينتهي به الحال مصلوبًا.
بين ميدان رابعة وأورشليم.. المعركة الأخيرة وما بعدها | مينا منير
يتعرض الفيلم بسخرية لاذعة لتصورات كانت حاضرة في المجتمع، ويقدم برايان بصورة تجعلك تتساءل إن كان المقصود به يسوع أم لا. هذا متعمد؛ والهدف منه إثبات أن يسوع التاريخ لم يكن مختلفًا في ظروفه وحياته عن العوام، بعيدًا عن الصورة الإلهية الزاهية التي اعتدنا على رؤيتها ليسوع الملك ذي الملابس البيضاء الناصعة والشعر الناعم الجميل والحياة التي قد لا يُتصور لنا حجم صعوبتها. فلم يكن يسوع، أو برايان إن كان فعلًا بديله، هو الوحيد الذي يصلب .
يظهر مشهد للصلب بصورته الحقيقية. كيف تُترك الجثة عليه حتى تتحول إلى جيفة ينقض عليها الوحوش والطيور. هذه حقيقة تاريخية، وهكذا.
أولًا: نتوقف عن حالة الجنون التي تظهر في النزاعات العقائدية التي يكون ثمنها تسفيه الحياة (حيث يموت الناس في الفيلم لأتفه الأسباب (مثل رجم إنسان لقوله لفظ الجلالة (هذا أمر محرم عند اليهود)، مثال على ما يحدث اليوم في حياتنا، حينما تُمتهن الحرية والكرامة الإنسانية باسم ازدراء الأديان. هناك مشهد محذوف يظهر فيه الرؤيويون يقتلون أنفسهم بطريقة أقرب للكوميديا السوداء، باسم الدين.
ثانيًا: أن نتوقف عن الخضوع المطلق للسلطة الدينية والمؤسسات بشكل أعمى، وأن نبحث بنفسنا عن قيمة حياة كل إنسان فينا، وأن نناقش الأسس والثوابت. هذا يظهر في كلمات برايان نفسه للناس حينما يأتون إلى بيته ويصرون على أنه هو المسيح، فيقول لهم: “لا تسمعوا لأحد، أعمِلوا عقولَكم وفكروا ، نحن كلنا مختلفون ، ويجب أن نعيش معاً.”
ولكن عبثًا، فحينما يسيطر الهوس الديني على أحد، فإنه يطوع كل شيء لخدمة تصور المعجزات، حتى لو كان حذاءً تركه أحدهم في الصحراء.
أخيرًا: يتجلى ذلك في آخر مشهد حيث يُصلب برايان وآخرون بينما نقاشهم مستمر حول أمور مهمة عن النجاسة (أحدهم يقول إنه يجب ألا يُصلب في وجود سامري) بشكل كوميدي، ليرينا حجم مأساة البشر حينما تكون أمور النجاسة والطهارة في أولوياتهم، حتى وهم يموتون ميتة بشعة.
يعترض صاحبنا وهو على الصليب ساخرًا من كلام الجندي الروماني فيهدد الجندي، فيرد عليه: ماذا ستفعل هل ستصلبني ثانيةً؟
وفي النهاية تكون النصيحة الشهيرة في أشهر أغنية بريطانية: Always look on the bright side of life!
حتى في وجه الموت، فحتميته يجب أن تجعلنا نسخر من الواقع بدلًا من أن نُبتلع في عبثيته
هذه الأغنية صارت واحدة من أشهر أغنيات الأفلام في التاريخ، فصار كل إنجليزي يعرفها عن ظهر قلب، وصارت جزءًا من حفل الـ BBC Prom السنوي.
بل إن الأغنية كانت جزءًا من افتتاحية أولمبياد لندن، حيث اختيرت كواحدة من معالم بريطانيا الأساسية التي يجب تمثيلها في هذا الحدث.
لا يختلف اثنان في بريطانيا على أن الفيلم يُعد نقلة جريئة بطريق نقد الدين من خلال فيلم لاذع السخرية. في بريطانيا أجرى التليفزيون مناظرة حول الفيلم، يظهر فيها جون كليز ومايكل بالين بالإضافة إلى شخصيات دينية وفكرية شهيرة.
هذه المناظرة مازالت إلى اليوم محل نقاش لما فيها من نقاط حول مدى جدية وإمكانية النقاش بهذه الطريقة الكوميدية.
لكن المفاجأة أن ما قاله الطرف الفني قوبل باستحسان شديد من الناس، فدون أن يكون بالين عالمًا في مجال الدراسات التاريخية، نجح في توضيح كيف أن يسوع نفسه كان ضحية وليس جلادًا؛ فقد ظهر في زمن مازال الكثير من مقوماته (كالقمع الديني وعدم احترام الكرامة الإنسانية) مستمرة إلى اليوم للأسف، ولذلك كان يسوع نفسه شاهدَا على ما يسخرون منه، وهو ما نسميه أكاديميًا: البحث عن يسوع التاريخ وليس مسيح العقيدة.
الإيمان والدين.. أيهما الطريق إلى الآخر؟
ولعل أكثر ما يمكن توضيحه من نجاح الفن وفشل المؤسسة الدينية في مواجهته هو أنه لم يكن بوسع الفنانين إلا المزيد من السخرية، حتى من أسلوب التعالي الذي ظهر عليه الأسقف، فسجل روان أتكينسون (الشهير بشخصية مستر بين) فيديو ساخرًا من الأسقف نفسه، لقي استحسانًا من المؤمنين وغير المؤمنين سواءً بسواء. انتصرت ببساطة قيم الحرية والفن للإنسان وحريته.
ولكن ما هو رأي العلم فيما قدمه الفيلم؟
المسيح خارج الأناجيل: كيف تخيل الروائيون شخص يسوع الإنساني؟ | مارك أمجد
منذ عدة أعوام، أتذكر أنني تلقيت اتصالًا هاتفيًا من زميلتي بجامعة الملك King’s College في لندن، لتخبرني أن الأستاذ جوان تيلور بصدد عمل حدث كبير عن الفيلم في الجامعة، وتود أن تعرف إن كنت أستطيع مشاركتهم في العمل والتنظيم. حينها لم أكن أعرف شيئًا عن الفيلم، لكنني كفرد في هذا القسم عملت على الترتيبات، وبالطبع شاهدت الفيلم الذي أثار فضولي.
وبالفعل، جمع المؤتمر أفضل العلماء في مجال دراسات المسيحية المبكرة من العالم، وخاصةً في مجال ما يُسمى بالنقد التاريخي، وانتهى في يومه الثالث باستضافة جميع صناع الفيلم، حيث كنت سعيدًا جدًا بلقائي مايكل بالين وجون كليز والحديث معهما.
ما اتفق عليه العلماء هو مدى دقة التصوير التاريخي للأزياء وشكل اليهود والرومان في تفاصيل تعكس إعدادًا علميًا طويلًا. الأمر الذي أكده لي مايكل بالين شخصيًا، شارحًا كيف أن الفريق أمضى ثلاثة أشهر يدرسون أصول المسيحية ونظريات النقد النصي والتاريخي بشكل مبهر.
أتذكر أن جون كليز قال لي إنه يفهم جيداً نظرية Q، وهي إحدى نظريات أصول مجموعة نصوص وأقوال ليسوع، وكان هذا لطيف؛ لأن كليز نفسه يشتهر بلعب دور Q في أحد أفلام جيمز بوند، حتى أنني سخرت معه حينها، وقلت لها كيو يتحدث عن كيو.
الفيلم يعكس فارقًا أساسيًا في الأولويات: الإنسان أولًا ثم الدين وليس العكس، وهو بالمناسبة فحوى تعليم يسوع الذي قال: ابن الإنسان هو رب السبت (مقدسات الدين) وليس السبت هو رب الإنسان. ولذلك صار صناع الفيلم أكثر قربًا من يسوع الحقيقي عن المؤسسة الدينية التي تنبري في كل مكان (بالتحديد في بلادنا العربية) لسحق المخالف لها، وتضع رقبته تحت مقصلة السبت، أو الجمعة، أو الأحد ، التي هي نفس المقصلة التي استهدفت يسوع المسيح منذ ألفي عام.
كيف تحول باباوات الكنيسة الرومانية إلى حكام فعليين
في ذكرى معروف الرصافي.. هل حان الوقت لمراجعة قرار منع كتابه الشخصية المحمدية؟ | مارك أمجد