سد النهضة (4) | كيف أعادت مصر ترتيب الأوراق بعد 30 يونيو؟ وأين تقف الآن؟ | محمد زكي الشيمي

سد النهضة (4) | كيف أعادت مصر ترتيب الأوراق بعد 30 يونيو؟ وأين تقف الآن؟ | محمد زكي الشيمي

18 Mar 2020
الشرق الأوسط
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

في ظل العوامل التي عرضناها في المقالات الثلاثة الماضية، بات على الاستراتيجية المصرية بعد 2013 أن تتعامل مع موقف مختلف كليًا. لهذا تبنت استراتيجية جديدة مستفيدة شيئًا فشيئًا من المستجدات في السياسة الدولية.

يمكننا تلخيص الاستراتيجية المصرية كالتالي:

استراتيجية مصر ونقاط قوتها

1- تجنب استخدام اللغة العدائية أو التصريحات العنيفة تجاه فكرة انشاء سد النهضة مع التركيز على فكرة عدم الإضرار بمصر والنقاط التي تحقق مصالحها.

الهدف من ذلك كان تحويل الصورة من كون مصر تستغل اتفاقات منذ عهد الاستعمار بما يجعلها في صف القوى الاستعمارية في نظر الأفارقة إلى كونها تحاول منع الضرر عنها لا غير.

2- ركزت مصر على حقيقة أنها لا تملك مصادر أخرى لمياه الشرب. فبينما يبلغ متوسط معدل التساقط على بلد كإثيوبيا حوالي 850 مم في العام، فإن المعدل في مصر هو 50 مم في العام، بما يعني أن أثيوبيا لديها موارد مائية أخرى لا تملكها مصر. والبيانات الرسمية المصرية تشير إلى أن نصيب الفرد من المياه هو 663 متر مكعب سنويًا، وهو أقل من تعريف الأمم المتحدة للفقر المائي (1000 متر مكعب سنويًا).

3- اعتمدت مصر سياسة التركيز على أفريقيا. وبعد عشرين عامًا من الغياب الرئاسي المستمر عن حضور القمم الأفريقية، أصبحت مصر حريصة على حضور هذه المناسبات بشكل مستمر، كما أنشأت الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية في أول يوليو 2014، وأعلنت عنها أثناء حضور الرئيس عبد الفتاح السيسي للقمة الأفريقية آنذاك، ووصلت مصر لرئاسة الاتحاد الأفريقي الدورية بين فبراير 2019 وفبراير 2020، وهي المرة الأولى التي تصل لرئاسة دورية منذ النصف الأول من التسعينيات.

4- في ذات السياق وافقت مصر في مايو 2018 على بناء أربع محطات طاقة شمسية في أوغندا لتأمين توليد الطاقة، ووافقت على منح كينيا 5.5 مليون دولار لإنشاء آبار ( وهي سياسة تتضمن تشجيع عدم الاتجاه للتوليد من المساقط المائية)، وساهمت بأكثر من 26 مليون دولار في مشروع تحسين الري والصرف في جنوب السودان. وفي يناير 2015 عالجت مئة طفل من كينيا من المصابين بسرطان الأطفال في مصر. وفي فبراير وافقت على خطة زراعة 6000 هكتار بالزيتون والحبوب في الكونغو.

مسار المفاوضات

1- قطعت مصر المسار الطويل في الدراسات والمفاوضات مع إثيوبيا.

وبغض النظر عن التشكك المصري في جدية النوايا الإثيوبية للحل، وعن كون المناقشات الفنية جاءت قبل أي التزام سياسي من إثيوبيا، انتهت الدراسات إلى تأكيد تأثير سد النهضة على مصر ما لم تُحل القضايا العالقة، وبالتالي فإن الحجة الإثيوبية التي ترتكز على كون مصر هي الطرف المتعنت انعكست تدريجيًا ليصبح الموقف أن إثيوبيا تريد تحقيق أكبر فائدة ممكنة لها بغض النظر عن الأضرار التي قد تلحق بالآخرين.

2- وقعت مصر مع السودان وإثيوبيا اتفاقية إعلان مبادئ سد النهضة في مارس 2015.

الاتفاقية لم تتضمن تأكيدًا أو تحديدًا لحصة مصر من مياه النيل، لكنها حولت الموقف السياسي من نقطة تتكتل فيها دول الحوض في جانب، ومصر في الجانب الآخر، وتتناقش فيه مصر مع السودان وإثيوبيا من زاوية تنطلق فيها إثيوبيا من كون سد النهضة مسألة سيادة تخصها وحدها، وأن الجوانب الفنية فقط هي ما يمكن مناقشته مع بقية الأطراف، إلى وضع يتضمن اعترافًا مهمًا من إثيوبيا بكون مصر شريكًا فيما يتعلق ليس فقط بالجوانب الفنية كأمان السد أو قواعد الملء الأول له، ولكن أيضًا في اثبات كون النزاعات واردة ويجب حلها سلميًا عبر طلب الوساطات، وهو مايعني ضمنيًا فتح الباب لتدويل الموضوع عند الحاجة.

3- اعتمدت مصر في المفاوضات على التركيز على الأثر البيئي والإيكولوجي للسد بهدف تقوية موقفها دوليًا؛ فجماعات الضغط البيئية التي لا تميل إلى حدوث تغييرات إيكولوجية ضخمة ستصبح إما أكثر ميلًا لتخزين كمية أقل من المياه خلف السد، وبديهي أن هذا يعني زيادة كمية المياه المتدفقة إلى مصر، أو زيادة فترة ملء الخزان وهو ما يقود لنفس النتيجة.

وبرغم أن هذه الاستراتيجية لم تحقق كامل النجاح المطلوب باعتبار أن العمل في سد النهضة استمر، فإنها حققت الهدف الجانبي بجعل القضية مثار جدل عالمي.

صراع ٣ يوليو خارج الحدود المصرية: أمريكا والخليج | س/ج في دقائق

الاستعداد الاستراتيجي

1- استمرت مصر في رفع كفاءة تسليحها باستمرار لإبقاء فكرة الحل العسكري قائمة ولو كخيار أخير. تزامن ذلك مع تصريحات قوية من حين لآخر، تضمنت التأكيد على أن المسألة وجودية لمصر لا يمكن التنازل عنها، دون الانزلاق للتهديد العلني بالحرب.

والملاحظ هنا أن فكرة الحرب أتت أولًا من الجانب الإثيوبي في تصريحات مفاجئة في أكتوبر 2019، وإن جاءت في إطار استعداد إثيوبيا للدفاع عن نفسها. هذه التصريحات تعكس حقيقة توتر إثيوبيا من لجوء مصر لهذا الخيار في نهاية المطاف.

2- عمقت مصر علاقتها مع دولتين على وجه الخصوص هما إريتريا وجنوب السودان. والعلاقات معهما – وإن كانت ليست في أهمية العلاقات مع السودان في هذا الملف – فإن الموقف السوداني المائل لإثيوبيا، رجح اتجاه مصر إلى البدائل الأخرى.

لا تتبنى أي من الدولتين بالطبع الموقف المصري بشكل رسمي، فكلاهما غير معني بالموضوع. لكن جنوب السودان لها مصلحة في عدم اشتعال الموقف بين البلدين باعتبار أنها ستتأثر بشدة لكونها تريد الاستفادة من تصدير النفط عبر إثيوبيا أو استيراد الكهرباء منها. أما إريتريا فسبق توضيح حجم وشكل الخلاف بينها وبين إثيوبيا.

وقد دأبت إثيوبيا على اتهام مصر وإريتريا بإثارة القلاقل فيها، كما أنها أبدت بعض الامتعاض تجاه جنوب السودان. وعمومًا، ولمحاولة اغلاق الطريق أمام مصر، عملت إثيوبيا عام 2018 على إنهاء حالة الحرب مع إريتريا وتوقيع اتفاق سلام معها والتعهد بإعادة الأراضي الإريترية (وهو مالم يتم تنفيذه حتى الآن).

أما بشأن جنوب السودان، فباعتبارها دولة حبيسة، فأهميتها لمصر أمنية واستراتيجية وسياسية أكثر من كونها عسكرية، في حال فرضنا تحول الصراع مع إثيوبيا لصراع عسكري. ويبقى إذن مفتاح الحل العسكري كله مربوطًا بإريتريا بالأساس أو بالسودان إذا ماحدث وتغير موقفه لظروف أخرى (مثل تصعيد النزاع حول الفشقة مجددًا) وهو أمر غير متوقع في ظل الظروف السياسية والاقتصادية الحالية في السودان.

من يحكم السودان الجديد؟ ومن يستفيد أكثر إقليميًا؟ | س/ج في دقائق

داخل إثيوبيا

تمتلك مصر ورقة مؤثرة أخرى، وهي حقيقة الوضع المضطرب داخليًا في إثيوبيا.

المؤكد أن إثيوبيا شهدت اضطرابات متكررة منذ رحيل زيناوي، فهي ورغم كونها بلد متنوع عرقيًا، حكمها حكام من عرقية الأمهرة لمدة طويلة، رغم أن الأمهرة يشكلون نسبة 25% من السكان، أي أنهم أقل من عرقية  الأورومو الأكثر عددًا في البلاد بنسبة 40%.

ومع وصول ميليس زيناوي للحكم، فإنه عزز من نفوذ عرقيته التيجراي التي لا تتجاوز نسبتها 6.5 % من السكان. وأدت فترة حكمه الطويلة إلى تغلغل هؤلاء في مفاصل الدولة. لكن ظاهريًا، كانت السلطة موزعة على تحالف حزبي يتكون من أربعة أحزاب رئيسية كل منها يشكل عرقية إثيوبية (تيجراي، وأمهرة، وأورومو، وعرقيات جنوب إثيوبيا).

خليفة زيناوي انتمى إلى المجموعة الأخيرة التي لا تتميز علاقتها مع الأطراف الثلاثة الأخرى بالحدة، لكن الاضطرابات العرقية وأعمال العنف استمرت،  خصوصًا من الأورومو الراغبين في  الحصول على تمثيل يناسب حجمهم، إلى أن أجبرته على الاستقالة، ليحل محله آبي أحمد الذي ينتمي للأورومو.

ورغم محاولة آبي أحمد للظهور كحمامة سلام، فإن التركيبة الداخلية لا بد أن تقوده إلي التخلص من كثير من نفوذ التيجراى الذي اكتسبوه في عهد زيناوي. أدي هذا إلى تصاعد رغبة الأمهرة في استرداد  نفوذهم القديم من التيجراي أيضًا. وهكذا شهد يونيو 2019 محاولة انقلابية فاشلة في إقليم أمهرة قتل فيها رئيس الأركان ومسؤولان مهمان آخران.

وقبل نهاية العام، كان التحالف الحزبي الرباعي المشكل من العرقيات الأربع الذي يقوده آبي أحمد قد أصبح ثلاثيًا بخروج التيجراى من التحالف، وأصبح اسم التحالف الجديد هو حزب الرخاء.

من جهة أخري، فالأراضي التي يجب أن تسلمها إثيوبيا لإريتريا ضمن اتفاق السلام تقع ضمن أراضي إقليم التيجراي، وحكومة الإقليم ترفض تنفيذ الاتفاق حتى الآن، وخروجهم من السلطة في الحزب الحاكم على المستوى الفيدرالي سيضعف من قدرة آبي أحمد على تنفيذ الاتفاق إذا ما رغب في ذلك؛ لأنه سيواجه بفكرة أنه يزيد من استهدافه للتيجراي أكثر وأكثر.

إثيوبيا وإن استطاعت توحيد الإثيوبيين خلف سد النهضة بدعاوي الرخاء فإنها لا تستطيع تجنب المشاكل الأخرى التي قد يكون لها انعكاسات على الموضوع.

إثيوبيا | جوهر محمد وآبي أحمد – الصداقة التنافس الخصومة تراجيديا إثيوبية | س/ ج في دقائق

العلاقة مع الولايات المتحدة

تظل علاقة مصر بالولايات المتحدة تحت إدارة دونالد ترامب أحد أهم العوامل في الضغط على إثيوبيا؛ فعلاقة مصر والولايات المتحدة حاليًا هي الأفضل بينهما منذ أواخر التسعينيات إذا لم تكن الأفضل على الإطلاق.

إدارة ترامب تريد  الوصول لحل سياسي في القضية، وبالتالي فدخول الولايات المتحدة على خط الوساطة منذ أكتوبر الماضي، وقبول مصر الورقة المقترحة أمريكيًا والتي رفضتها إثيوبيا، وصولًا للامتناع عن التوقيع، يضع إثيوبيا في مرمى الضغط  السياسي والاقتصادي من عدة أطراف في المجتمع الدولي، ليس فقط الدول العربية الصديقة، ولكن من الولايات المتحدة كذلك.

بالطبع لا يمكن التعويل على ذلك وحده، لكنه الاختيار الأفضل وربما الأخير قبل الانتقال لمرحلة لا يرغب الجميع في الوصول إليها.

من جانب آخر، رفعت مصر مساهمة تحلية المياه في مصادرها عبر انشاء محطات للتحلية لتجنب فترات نقص المياه المتوقعة، كما تسعى لرفع استخدام الماء العالج من الصرف في الزراعة ليصل إلى 10 مليون متر مكعب يوميًا أي 3.65 مليار متر مكعب سنويا .  تتبني مصر أيضًا اتجاهاً لتقليل زراعة النباتات غير الأساسية المستهلكة بكثافة  للمياه، وتزامن ذلك مع استمرار حظر تصدير الأرز للإبقاء على حاجات السوق المحلي.

وضع الاقتصادي المصري حاليًا أفضل مما كان عليه، يعني هذا الوضع أن مصر يمكنها عند اللزوم  الدخول فيما كان يعتبر مخاطرة كبيرة منذ سنوات، ولكنه يعني أيضًا أن نتيجة المخاطرة أيا كانت ستبدد الأثر الإيجابي المنتظر اقتصاديًا منذ سنوات.

أسوشيتد برس: التوك توك نموذجًا.. كيف تغير نهج الدولة المصرية في العقد الأخير؟ | الحكاية في دقائق


ملف كامل سد النهضة في دقائق


رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك