محمد الفاتح غزا القسطنطينية. حلال عليه. ما مشكلتنا نحن! هذه معركة تركية، يتفاخر فيها الأتراك من أهل الأناضول على الأتراك الإغريق. ويخرجون فيها ألسنتهم للحضارة البيزنطية. لقد استولوا على أيا صوفيا، قلعة المسيحية الشرقية في زمانها وحولوها إلى مسجد.
ما يخصنا نحن معركة أخرى تمامًا. حين أرسل الجيش العثماني لغزو أرض مصر وما حولها . ثم احتلنا لقرون طويلة. فكان خير بلادنا يرسل ليتنعم به أهل الأستانة. بينما يفرض علينا نحن ظلام دامس، في احتلال هو الأسوأ من بين الجميع.
الاحتلال بدأ عام ١٥١٧، في نفس التوقيت الذي بدأت فيه أوروبا رحلة الإصلاح الديني وعهد التنوير. فكان التخلف تخلفين. تخلف لأن العثمانيين لم يكونوا أهل حضارة، بل أهل سلب ونهب. وتخلف لأن العالم من حولنا كان يسرع الخطى إلى الأمام.
في كتابات الجبرتي، الذي كان مواليًا للعثمانيين، من الحكايات عما حدث هنا ما يندى له الجبين.
اغتصاب المصريات الفلاحات كان حدثًا متكررًا. قتل المصري (الفلاح كما كانوا يسمون أهل مصر الأصليين) من أجل حماره الذي يركبه كان حدثًا يوميًا. مبادلة الأموال القليلة للفلاحين المصريين مقابل النقود “الزيوف” كان حدثًا يوميًا. لا تعليم ولا صحة ولا مرافق. هذه الحالة، التي لا نزال نعيشها إلى اليوم، ليست أكثر من أثر واحد من الحياة الوضيعة التعيسة التي عاشها أجدادنا في الضيع والنجوع، بينما اقتصرت القاهرة على العثمانيين ودوائرهم من مختلف البلاد.
ما فعلته الدولة المصرية منذ عهد محمد علي، سواء نال رضاك أم لا، أفضل أضعافًا مضاعفة مما حدث لنا تحت سلطة الاحتلال التركي العثماني لبلادنا.
أبناء المصريين “الفلاحين” لم يظهروا على الساحة، ويخرج منهم النجوم التي عرفناها في أول القرن الماضي، إلا بعد زوال المستبدين العثمانيين. المصري “الفلاح” لم يكن في بال السلطة من أساسه ولا خاطرها، إلا كعبد لا ينقصه إلا لقب عبد. مجرد سخير أجير. بلا دية.
من أبناء المصريين هؤلاء من صار يتفاخر على المصريين بأن عائلاتهم تجري فيها الدماء التركية. معظم العائلات التركية حتى يومنا هذا لا تصاهر المصريين “الفلاحين” تكبرًا.. فهل كانت تفعل ذلك حين كانت السلطة في أيديهم؟! مش أهل البلد إحنا ولا إيه. انتو بتكلموا خواجات!!
لا أقول هذا من باب المعايرة، أتحدث عنا جميعا، تحت سلطة احتلال، وهذا ما يحدث تحت الاحتلال. الدماء التركية في عائلات مصرية ليست عارا، العار هو الاعتقاد بأن هذا مدعاة للفخر. أو نسيان هذا التاريخ والترويج لعودة السيطرة التركية بصورة حديثة كما يفعل فلول العثمانيين من جماعة الإخوان المسلمين والمتعاونين معها.
هؤلاء لا شأن لنا بهم. هؤلاء حالة نفسية خاصة تريد أن تقنعنا بأنهم كانوا من الذئاب لا الخراف. حالة الخراف المستذئبة مضحكة إلا لأصحابها. يمأمئون وهم يظنون أنهم يعوون. وكل من حولهم يضحك عليهم. رغم أن حالتهم مأساة.
وهي حالة ممتدة لا تقتصر على الإعلاميين العاملين لصالح العثمانيين الجدد، من أبناء العائلات المصرية، أهل البلد. بل وصلت إلى مواطنين يطلقون هاشتاجًا يقول “جدودنا أتراك”، إلى قطريين يقولون على أنفسهم إنهم “أحفاد العثمانيين”. ها ها ها ها.. إهئ إهئ إهئ إهئ. أسوأ المآسي ما استدعى الضحك والبكاء في آن.
التركيز على سليم الأول واحتلال العثمانيين لبلادنا، بدلًا من الخوض في معركة لا تخصنا مهم لسببين:
أولًا، أن هذا ما يناسب الحادث الآن مع جيش إردوغان الذي تدعمه العناصر المحلية من فلول العثمانيين، جماعات الإخوان ودوائر اليسار العالمي والإقليمي المتحالفة معهم.
ثانيًا، لأن هذا يفوت الفرصة على الدخول في جدل الفتح والغزو. حيث إن فلول العثمانيين يقدمون معركة محمد الفاتح مع أهل القسطنطينية على إنها معركة إسلام مقابل مسيحية. وسوف يستخدمون دعاية مكثفة في هذا الاتجاه.
أما معارك سليم الأول لاحتلال بلادنا فلم تكن كذلك. تستطيعون – كون الفقه الإسلامي مرجعيتكم – أن تثبتوا أن الموضوع كان انتصارًا قوميًا لشعب معين، بغض النظر عن ديانة خصمه. وهذه هي الحقيقة الدامغة. حينها، والآن.
في هذا الصدد، فإن تركيا التي يساندها الإسلامجية، لو وضعتها على مقياس الأحكام الدينية التي فرضوها على أجيال من المصريين وأهل الخليج والشام وساحل شمال إفريقيا، فهي بعيدة تمامًا عنها. نحن في مصر نعيش حياة متقشفة بلا مباهج دنيوية، لأنكم حرمتوها علينا. وهم هناك يعيشون حياة شخصية على النمط الأوروبي الذي يحذرنا الإسلامجية منه.
لكنهم يساندون تركيا على هيئتها ضد المجتمعات “الأكثر إسلامية”. مما يثبت أن الموضوع ليس انتصارًا للإسلام بل للسياسة والمصالح السياسية.
الجدل الإعلامي يحتاج إلى استراتيجية، وليس إلى ضربات عشوائية. إلا لو كان بعض الناس يتعمد الدخول في جدل لينهزم فيه. وهي تهمة لا أستبعدها عن كثير ممن يعملون في المؤسسات الدينية الرسمية. كما أظهرت لنا الأيام.
ذلك أن الجدل الإعلامي يبدأ نصره وهزيمته من اختياره لنقطة الجدل. لو كنت بارعًا في كرة السلة فلا تتحدى ملاكمًا في مباراة ملاكمة. تحداه في كرة السلة.
لا شأن لنا بمحمد الفاتح. على الإطلاق.
إنما حدثني عن سليم الأول.
حدثني عن الاحتلال العثماني لمصر وجيرانها. حدثني عما فعل الأتراك بأجدادنا.
حدثني عن إسطنبول التي نعمت بخيراتنا على حساب القاهرة ودمشق.
زيارة واحدة إلى تركيا الاستعمارية ستثبت لك ذلك.