ناقد فني
لا فن يولد من العدم. هذه الحقيقة معترف بها في صناعة السينما العالمية أكثر من المحلية، خاصة بين عظماء الإخراج على مر العصور، بحيث تجدهم أكثر تصالحًا في الإعلان عمن تأثروا بهم في صناعة أفلامهم دون حرج.
بعضهم يكون أكثر فصاحة وإخلاصًا في التعبير عن تقديره لعرابيه من المخرجين الذين سبقوه أو حتى معاصريه.
السويدي إنجمار بيرجمان مثلًا له خطابات مبللة بالانبهار بالمخرج السوفييتي أندري تاركوفسكي. يقول: “حينما لا يكون الفيلم وثيقة فهو حلم، ولهذا تاركوفسكي هو الأعظم على الإطلاق”. وصل هذا الوله لدرجة أنه عرض عليه إنتاج أعماله السينمائية الأخيرة بعد التضييق الذي عانى منه تاركوفسكي من حكومة الاتحاد السوفييتي.
هناك ستانلي كوبريك الذي كان يكن ولعًا مماثلًا لبيرجمان. أرسل له خطابًا عام 1960 يخبره بأن إسهاماته في فن السينما لا تنتمي لكوكب الأرض، وأنه الأعظم على الساحة بلا منافس، وأن أفلامه تحرك أعماقه.
الطريف أن بعض المخرجين كانوا يملكون الشجاعة للإعلان عن إعجابهم بمن لحقوهم من الأجيال الأصغر. هيتشكوك في سنوات مجده ونضجه عبّر عن إعجابه بمايكل أنجلو أنطونيوني. بعدما شاهد فيلمه Blow-Up قال: “هذا الطفل الإيطالي يثير القلق بداخلي (..) هؤلاء الإيطاليون يسبقوني في التقنيات بمئة عام، ماذا كنت أفعل طيلة هذه السنوات!”
فريتز لانج عبّر عن إعجابه في أكثر من مناسبة بمخرج الموجة الفرنسية الجديدة جان لوك غودار في بداياته: “أعتقد أن هذا الشاب يقوم الآن باستكمال ما كنا بدأناه”.
فن كتابة السيناريو.. 5 نصائح من كاتب The Social Network آرون سوركين | أمجد جمال
النموذج الأحدث لهذا النوع من التقدير نجده في علاقة المخرج كريستوفر نولان بالمخرج داميان شازيل. رغم أن مشوار الأول يسبق الثاني بجيل وبسلسلة من النجاحات الضخمة، لكن نولان وقع في غرام أفلام شازيل بشكل معلن وغير معتاد، وهو اقتصادي في تصريحاته عن زملائه في الصناعة. لكن في سنة 2015 صرح نولان أنه أعجب جدًا بفيلم Whiplash لشازيل، قال: “هذا العمل لا يُصدق، إنه نوع من الأفلام التي حين تراها تجدها مشغولة بدقة متناهية فتجعلك غيورًا”.
لكن هذا الإعجاب الذي كان في بدايته مخلوطًا بنزعة المنافسة والغيرة، يتحول مع فيلم شازيل الثاني إلى وَلَه حقيقي، حيث يصرح نولان في 2017 أنه ذهب ليشاهد فيلم شازيل الثاني La La Land في السينما ثلاث مرات متتالية. وعندما استعجب المحاور، أضاف نولان: “في كل مرة كنت أريد التأكد أن ما شاهدته بالعظمة التي تصورتها حقًا”.
الغريب أن هذا الإعجاب لم يخفت حتى مع فيلم شازيل الثالث First Man، والمصنف الأضعف نسبيًا في مسيرته. قال عنه نولان: “بعد ثلاثة أفلام لداميين شازيل، أصبح واحًدا من أميز وأهم المخرجين على الساحة الآن”.
شازيل بدوره حاول رد المجاملة عام 2017 حين امتدح فيلم Dunkirk لنولان مع دخول موسم الجوائز. قارن الفيلم بأشهر ملاحم السينما مثل “لورنس العرب” و”2001: أوديسة الفضاء”، قائلًا: “إنه السينما حين تصبح كالموسيقى! إنه أقرب لمعجزة فنية تدحض من جديد المزاعم بأن فن السينما ابتعد عن المخاطرة”.
قصة المونتاج.. الفن الذي ميّز السينما عن بقية الوسائط | أمجد جمال
جون فورد يعتبر من الآباء الروحيين لمهنة الإخراج، رغم انتمائه لمدرسة البساطة التي تعظم دور المخرج كلما لم نلاحظ وجوده. لكن تأثير أفلامه كان عابرًا للبلدان وللأجيال. تأثر به الياباني أكيرا كيروساوا في أفلامه، وحين كان يسئل هل درس السينما يرد: “درست جون فورد!”
إنجمار بيرجمان كذلك كان مولعًا بأفلام الغرب التي يقدمها فورد في الأربعينيات والخمسينيات، رغم اختلاف هذه النوعية عن أعمال بيرجمان. آخرون تأثروا جدًا بجون فورد مثل ستيفن سبيلبرج ومارتن سكورسيزي. لكن أورسون ويلز كان الأكثر إخلاصًا في تقديره لفورد.
عندما يسأله المحاور: “مَن تفضل من المخرجين؟”، يجيب ويلز: “أفضل الأساتذة القدامى، وأعني بالأساتذة جون فورد، جون فورد وجون فورد”.
أورسون ويلز المسؤول عن التحفة السينمائية Citizen Kaneقال في مناسبة أخرى إنه استعدادًا لتنفيذ ذلك الفيلم، اعتكف لمشاهدة فيلم Stagecoach لفورد فوق العشر مرات ليستخلص منه مفاتيح الحرفة الإخراجية عند فورد.
قيل كثيرًا عن الفارق بين منهج فورد ومنهج ويلز أن الأول كان يحاول تحليل الواقع باستخدام الأسطورة، بينما ويلز كان يحلل الأسطورة باستخدام الواقع. رغم هذا التضاد، يمكن لمس تأثر ويلز بفورد فيما يخص جماليات الصورة وتكويناتها المركبة التي تشبه اللوحات التشكيلية.
عندما حاوره بيتر بوجدانوفيتش، طلب من ويلز أن يجري مقارنة بين مدرسة هوارد هوكس ومدرسة جون فورد، فقال ويلز: “هوكس يقدم أعظم ما في النثر، ولكن فورد هو الشعر”.
أكثر المقولات إلهامًا حول صناعة الأفلام
الجميع كانوا يعشقون إنجمار بيرجمان بلا خلاف. لكن وودي آلن دائمًا ما يتصدر الصفوف في مواسم الحج لجزيرة فارو، حيث عاش وأبدع ومات أحد أهم عظماء الإخراج.
رغم الاختلاف الواضح بين سينما بيرجمان الكئيبة وسينما وودي الكوميدية، اهتم المخرجان بنفس المواضيع والهموم. وودي يقول إن هذا سر تعلقه ببيرجمان: “كل فنان يرى العالم بمنظور، هناك من يهتمون بدور السياسة أو المجتمع، لكنني منذ صغري كانت تشغلني الهواجس الوجودية، لذا تآلفت مع أفلامه؛ لأنه كان يطرح نفس الأسئلة التي تشغلني عن الحياة والموت والمعاناة والإيمان”. عبّر آلن عن نفس التيمات بشكل كوميدي، وقليلًا درامي.
بدأ حلم وودي بأن يصير سينمائيًا يوم أن شاهد فيلمSummer With Monica لبيرجمان.
الشباب في ذلك الوقت كانوا يذهبون بكثرة لمشاهدة هذا الفيلم لاحتوائه على مشاهد جنسية، لكن وودي الشاب شعر أن مضمون الفيلم يفوق ذلك، وأن بيرجمان يقدم فنًا حقيقيًا يسبق به الجميع.
وعن كآبة أفلامه يقول: “الكآبة تنتهي مع نهاية الفيلم بشعور من السعادة الفائرة؛ لأنك – قبل كل شيء – واقعت فنًا عظيمًا”.
قلّد وتأثر وودي في عدد من أفلامه ببيرجمان مثل Interiors وAnother Woman وLove and Death، وطلب التعاون مع الفنانين السويديين الذين شاركوا بيرجمان نجاحاته كالممثل ماكس فون سيدو، ومدير التصوير سفين نيكفس”، وقدم له التحية في عدد من أفلامه أشهرها Manhattan، حيث يستخدم شخصية ديانا كيتون وهي تنتقد بيرجمان وأفلامه بشراسة، ليرد عليها بأن بيرجمان هو الأعظم على الإطلاق، ويميل لاحقًا على صديقته ميريل هيمنجواي قائلًا: “كلمة زائدة عن بيرجمان وكنت سأهشم نظارتها!”
بيرجمان أحب فيلم Manhattan حين شاهده، والتقى بآلن في واحدة من زياراته لنيويورك.
يقول آلن عن اللقاء: “وهو معي شعرت أن بيكاسو يجلس في حضرة نقاش بيوت”.
سينما المؤلف والمخرج.. الفن يتسع للجميع
هذه المرة أستاذ وتلميذ من عظماء الإخراج ينتميان لنفس المدرسة الفنية بشكل أوضح. علاقة سبيلبيرج بديفد لين بدأت من سنوات المراهقة حين شاهد فيلم “لورانس العرب” وتغيرت نظرته للسينما وبدأ حلمه بأن يصير صانع أفلام بضخامة وملحمية “لورانس العرب” وبقية أفلام ديفد لين.
يقول سبيلبرج إنه يعود دائمًا لمشاهدة لورانس العرب قبل الدخول في أي عمل فني جديد. ولطالما تحدث عن الفيلم في وثائقيات عدة، وأدلى بتحليله لأبرز مشاهد الفيلم وتفاصيله الصغيرة التي تجعله مبهرًا.
توقف عند أساليب القطع والوصل بين المشاهد المختلفة، سواء في لورانس العرب أو في دكتور جيفاجو، وتحدث عن مشاهد بعينها جعلته في حيرة كيف تم تنفيذها، مثل تتابعات الصحراء، والتي كانت تتم بلقطة تلو الأخرى، مع إخفاء أي آثار لأقدام الجِمال والخيول رغم إعادات التصوير.
عندما أصبح سبيلبيرج مخرج مشهورًا، التقى بديفد وسأله عن تلك الأمور، فرد عليه: “هذا ما يحدث عندما تستغرق في تنفيذ المشروع الواحد أكثر من 200 يوم”.
بعدما صار سبيلبيرج نجمًا بين عظماء الإخراج والإنتاج، وله كلمة مسموعة في أستوديوهات هوليوود، ذهب عام 1985 ليعرض على ديفد لين إنتاج أي مشروع سينمائي يحلم به، وكان لين في تلك الفترة فقد جزءا كبير من لمعانه، وبالفعل قبل لين دعوة سبيلبيرج (كان مؤمنًا أنها من باب الشفقة) عكف لين لمدة سنة على تحويل رواية Empire of The Sun إلى فيلم من إنتاج وارنر برازر وتنفيذ سبيلبيرج، لكنه فقد إلهامه واعتذر عن استكمال المشروع، فأكمله تلميذه سبيلبيرج على مقعد المخرج.
وعندما قرر معهد الفيلم الأمريكي تكريم ديفد لين في 1990، صعد سبيلبيرج على المنصة ليقدمه بإلقاء كلمة عن تأثيره الكبير في فن السينما فضلًا عن تأثيره في سبيلبيرج نفسه.
هل خلود الفن معيار لجودته؟ خمس ثغرات لهذه النظرية | أمجد جمال | دقائق.نت
ما يجمع بيلي وايلدر وأستاذه إرنست لوبيتش أكثر من التخصص في الكوميديا. فالمخرجان ينتميان للطائفة اليهودية التي عاشت في ألمانيا في الفترة الحرجة بين الحربين العالمية الأولى والثانية، وهما – إضافة للإخوة ماركس وميل بروكس ووودي آلن – ساهما في دعم أسطورة تروّج بأن للعرق اليهودي حس دعابة خاصا.
هاجر لوبيتش إلى هوليوود في العشرينيات، بعد أن صنع اسمًا كمخرج وكاتب كوميدي نظرًا لكساد صناعة الترفيه في ألمانيا آنذاك تأثرًا بتبعات الحرب العالمية الأولى.
ولحق به بيلي وايلدر في مطلع الثلاثينيات لنفس السبب، وإن كانت تلك الهجرة أنقذتهما من مصير مأساوي كان ينتظرهما مع النازية (عائلة وايلدر قتلت في المحارق بالفعل بينما نجحت عائلة لوبيتش بالهروب إلى لندن).
لوبيتش أثرى السينما الصامتة والناطقة بسلسلة من أفضل الأفلام الكوميدية، تعاون على كتابة بعضها مع وايلدر الذي كان يعتبر لوبيتش أستاذه ومديره. أبرز تعاون بينهما كان في فيلم Ninotchka. تعلم وايلدر من لوبيتش الكثير في فترة عملهما معًا، وانطبعت الكثير من سمات لوبيتش على أفلام وايلدر لاحقًا.
الكوميديا التي قدماها نالت نفس الاتهامات من التيار المحافظ في فترة الرقابة بأنها كوميديا كلبية (Cynical) وفوق أخلاقية (Amoral).
حتى بعد مرور عشرات السنين على وفاة لوبيتش، ظل وايلدر ممتنًا له، وقال كثيرًا إنه يعلق لافتة في غرفته مكتوبا عليها سؤال: “كيف كان ليفعلها لوبيتش؟” والإجابة في الطريقة التي سمّاها نقاد تلك الفترة بـ “لمسة لوبيتش”، أو سر صنعته. ليس لها تعريف واحد أو مطلق، لكن وايلدر كان أبرع من شرحها في هذا الفيديو.