أي الجملتين التاليتين أصوب للحديث عن الفنون، وبالأخص السينما والمسلسلات؟
1- الفن مجرد مرآة للمجتمع، وطريقة للتشابك مع واقعه ووعيه ومعطياته.
2- الفن يغير في الأفكار، ويؤثر في وعى المجتمع، وبشكل قوي جدًا إذا وضعنا في الاعتبار أن الأفلام والمسلسلات أكثر انتشارًا وتشابكًا مع الجمهور بمختلف فئاته وأعماره، مقارنة بالكتب والندوات والبرامج الثقافية مثلًا.
الحقيقة أن الجملتين صواب، لكن أصبح الدارج تجاهل واحدة منهما، واستخدام الأخرى، لإلقاء اللوم على طرف محدد طوال الوقت عند الحديث عن التغيرات السلوكية والاجتماعية.
لدينا الآن خطاب يتردد على ألسنة الفنانين والنقاد بالأخص، مضمونه أن الفنون بريئة من أي تغيرات سلوكية وظواهر سلبية ينسبها البعض إليها، وأن ما نراه على الشاشات من شخصيات وأحداث مجرد انعكاس لواقع سلوكيات هذا المجتمع.
مشكلة هذا الخطاب الذي يظن أصحابه أنه تقدمي للغاية للحديث عن الفنون، هو أنه في الحقيقة ازدراء للفنون نفسها. ازدراء لأنه ينزع عن الفنون قدرتها في أن تجعلنا نتأمل ونفكر ونتشكك ونتغير. وقدرتها على أن تجعلنا نعيد صياغة مفاهيمنا، أو على الأقل أن نراجع قناعاتنا.
لدينا في المقابل خطاب أكثر سخافة، يتردد على ألسنة ذوي الميول المحافظة بالأخص، ويشارك فيه التيار النسوي بكثافة حاليًا، مضمونه أن الفنون هي المسؤول الأول والأساسي عن التغيرات السلوكية والظواهر السلبية في المجتمع.
كيف أصبحت الأجندة النسوية المعاصرة في هوليوود منفرة؟ | حاتم منصور
* انتشار المخدرات؟ حسنًا. السبب هو السينما.
* فشل التعليم وانهيار هيبة المعلم؟ حسنًا. السبب مسرحية مدرسة المشاغبين.
* انتشار البلطجة؟ حسنًا. السبب أفلام محمد رمضان.
* انتشار التحرش الجنسي. حسنًا. السبب أفلام عادل إمام.
والحقيقة أن كل القناعات السابقة هراء.
* المخدرات منتشرة عالميًا حتى في الدول والثقافات التي لا تعرف السينما، وهي في الحقيقة سلعة وتجارة رائجة أقدم من فن السينما نفسه.
* وفشل نظام التعليم في مصر أعقد من أن يُنسب لمسرحية كوميدية، مقتبسة بالمناسبة من أصل أجنبي، لم يزعم أحد مسؤوليته عن فشل أنظمة التعليم هناك؛ لأن أنظمة التعليم في الغرب لم تسقط، وبالتالي لم تظهر حاجة لتبرير سقوطها وتحميل فشلها على شماعات!
سكاكين السوشيال ميديا التي تحتاجها صناعة الفن أحيانًا | حاتم منصور
* وانتشار البلطجة انعكاس لغياب دولة القانون قبل أي شيء، ونتيجة حتمية لمنظومة تسمح للأكثر عنفًا بفرض سطوته، دون الخوف من أي عواقب. دعك طبعًا من حقيقة أن البلطجة ظاهرة أقدم بمراحل من نجومية محمد رمضان.
* والتحرش الجنسي سلوك أعقد من أن يُنسب لأفلام وشخصيات عادل إمام أو للسينما عامة، بل وحقيقة أننا نضحك على هذه المشاهد في أفلامه، تنسف أساسًا هذا الإدعاء بالكامل؛ لأن ضحكنا معناه ببساطة أن هذا السلوك خارج عن حدود المقبول والمتعارف عليه.
هذا الخطاب الذي يحمل الفن مسؤولية إحداث تغيرات سلوكية هائلة، يتجاهل الكثير من المعطيات عند الحديث عن نفس التغيرات، ويقتل حس المنطق والتفكير السليم.
على سبيل المثال، وبالنظر لقضية التحرش الجنسي والعنف ضد الإناث، يمكن أن نتساءل: هل الأجدر بنا تصنيف أفلام وشخصيات عادل إمام الكوميدية كسبب حقيقي فعلًا، أم أن السبب الأقوى مثلًا خطاب ديني شديد الجدية يتردد منذ عقود، ويؤكد أن:
1- خروج المرأة للضرورة فقط لأنها عورة.
2- المتبرجة امرأة تلح في عرض نفسها على الرجال، ووالدها/ زوجها شخص ديوث لا يمانع ذلك.
3- يجب عزل الجنسين طوال الوقت عن بعضهما، لأن أي اختلاط بينهما هو باب للفتنة والخطيئة وممارسة الجنس.
4- المرأة التي تكشف أية علامات لأنوثتها لا يحق لها أن تشكو من التحرش؛ لأن ما يحدث لها من تحرش لفظي أو جسدي، نتيجة منطقية لا تختلف عن تجمع الذباب على الحلوى المكشوفة.
5- من حق الرجل تأديب زوجته بممارسة العنف.
الزعيم | من الثلاثي لمحمد رمضان.. مصير من نافسوا عادل إمام | عبير عبد الوهاب
المقارنات إذن سهلة ولا تحتاج لكثير من الجهد؛ لأن نتائج خطاب ديني متخصص أصلًا في تحديد قناعاتك وأفكارك وتوجيهك سلوكيًا، ويُطرح على المجتمع باعتباره “الصواب المطلق” أكثر تأثيرًا بالتأكيد، من شخصيات وأحداث تقدمها السينما أصلًا باعتبارها خروجًا عن المألوف.
يمكن ربط ما سبق باتهامات غربية مماثلة حاليًا، ترعاها التيارات اليسارية والنسوية بالأساس، وتوجه سهامها لمخرجين ومبدعين مثل تارنتينو، أو لأفلام مثل الجوكر، باعتبارها سينما خطرة تبارك ممارسة العنف وتُعادي المرأة.
نحن الآن إجمالًا في عصر نوجه فيه سهامنا للفن في الشرق والغرب، لأن الفن غير محصن من النقد، بينما تبارك نفس هذه التيارات النسوية واليسارية مثلًا في الغرب، تيارات دينية إسلامية، بمبررات مثل التعددية والخصوصية الثقافية، رغم أن مكونات خطاب هذه التيارات أبعد ما تكون عن احترام حرية المرأة، أو تأييدها في قضية المساواة.
يمكن أيضًا ربط هذه القناعات في مصر، وتحميل الفن المسؤولية عن فساد التعليم، وانتشار التحرش، وازدياد البلطجة.. إلخ من قائمة الاتهامات السابقة والحالية، بوعي عام مصري وعربي معاصر، يمثل حصادًا منطقيًا لأفكار التيارات الإسلامية واليسارية، ويهوى دومًا تحميل فشل المجتمع في كل القضايا على شماعات جاهزة، لا تتضمن طبعًا أي طعن في ثقافة وهوية وثوابت هذا المجتمع.
شماعات مثل أن الفقر سببه الحكومات وليس ضعف الإنتاج والتكاثر الحشري. وأن التخلف سببه تجهيل سلطوي متعمد، وليس ثقافة سائدة ترفض التحديث وتعادي العلم أصلًا. وأن الفشل الاقتصادي سببه الرأسماليون الأشرار، وليس موروثات اشتراكية رثة فشلت في كل تجاربها عمليًا. وأن تذيل العالم في كل المجالات تقريبًا، سببه مؤامرات الغرب الحاقد.
لا عجب أن أصحاب القناعات السابقة، هم أيضًا الرعاة الأساسيون في ترويج نظريات أن التحرش الجنسي سببه الرئيسي عادل إمام، وأن البلطجة سببها الرئيسي محمد رمضان.
من دفاتر صلاح أبو سيف.. الواقعية والرقابة والجنس والنقاد | أمجد جمال
المسألة ببساطة هروب مستديم من مناقشة أسباب مترسخة ومعروفة لأغلب عيوبنا ومشاكلنا؛ لأن هذه المناقشات والمراجعات تستلزم شجاعة لا نملكها. وعوضا عن هذه المهمة الصعبة نلجأ إلى عملية سهلة وروتينية يتم فيها تحميل هذه العيوب والمشكلات على شماعات سهلة الاستهداف مثل الفن.