مذكرات طبيب (2) | هل يمكن للكذب أن يكون فضيلة؟ | خالد الشامي

مذكرات طبيب (2) | هل يمكن للكذب أن يكون فضيلة؟ | خالد الشامي

25 Dec 2022
الدكتور خالد الشامي
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

 المكاشفة التامة والمصارحة الشاملة مع المريض بخصوص كل ما يتعلق بالمرض وطبيعته، العلاج و بدائله، واحتمالات الشفاء من عدمها، هي من القواعد المؤسسة لأخلاقيات مهنة الطب.

درست هذا كثيرًا، وخبرت وطأته و ثقله مرات عديدة، ولم يساورني شك أبدًا في أن المصارحة والمكاشفة والصدق هم الخيار الأخلاقي والإنساني السليم، وأن ما دون ذلك هو خداع للمريض، ونزع لحقه الأصيل والثابت في تقرير مصيره، إلى أن صادفت تجربة قاسية وضعت هذا المعيار على المحك.

منذ سنوات كنت أعالج مريضة من سرطان ليمفاوي. كانت سيدة في الستين أو نحوها، وكانت وحيدة تمامًا. لم تكن متزوجة، وليس لديها أولاد، ولم أر أي شخص يزورها من الأقارب والأصدقاء.

وللأسف لم تستطع التغلب على المرض اللعين الذي تقدم غير عابئ بمحاولاتي المستميتة لرده عنها.

قبل وفاتها بيوم أو يومين، مررت عليها في غرفة العناية المركزة. ولما دخلت عليها، كانت تكتب على مجموعة من الأوراق ما أدركت أنه وصيتها الأخيرة.

أجريت الكشف عليها، وسألتها إن كانت تتألم.

أجابت بالنفي بأنفاس مبهورة. ثم سألتني من خلف قناع الأكسچين:

هل يمكن أن أتبرع بأعضائي بعد أن أموت؟

أجبت بدون تفكير: للأسف وجود سرطان متقدم يمنع ذلك. فأطرقت في يأس مطبق، وهي ممسكة بالأوراق في يديها المرتعشتين.

لحظتها أدركت فداحة ما فعلت.

كانت تحاول في الثانية التاسعة والخمسين أن تعلو بإنسانيتها على المرض اللعين.

كانت تحاول أن تضيف لحياتها المنتهية قيمة ما.

كانت تحاول أن تظل جزءًا من الأسرة الإنسانية التي تركتها تموت وحدها.

لماذا لم أكذب عليها؟

لماذا منعت عنها بصيص الأمل الوحيد وسط ظلمة الموت الداهمة؟

خرجت من عندها، وأنا أشعر أنني أغبى و أقسى إنسان في الوجود.

كيف أجرمت في حقها بهذا الشكل الشنيع؟

أكان يجب أن أصارحها بالحقيقة؟

ألم يكن الكذب في هذه اللحظة فضيلة؟ الخدمة الأخيرة التي أقدمها لمريضة فشلت في إنقاذها من الموت؟

لماذا لم أكذب عليها؟ لماذا؟

هل كانت هذه سقطة أخلاقية؟

هل هناك مساحة ضبابية على حدود ما هو أخلاقي Ethical و ما هو إنساني Moral؟ (الترجمة بتصرف لأن الكلمتان في اللغة الإنجليزية لهما معنيان مختلفان. لكن المقابل العربي واحد).

إذا كان القصد النهائي من “الأخلاق” هو تحقيق الخير، إذًا، أكان الصدق و المصارحة في هذا الموقف تحقيقًا لخير؟

هل يكون الكذب مبررًا أحيانًا؟ يكون هو وسيلة لتحقيق الخير؟

أم يظل دائمًا، مهمًا كانت دوافعه و أعذاره، عملًا شريرًا؟

لا أعرف.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك