مذكرات طبيب (1): هل ما تبقى من اللعبة يستحق عناء إبقاء الشمعة مشتعلة؟ | خالد الشامي

مذكرات طبيب (1): هل ما تبقى من اللعبة يستحق عناء إبقاء الشمعة مشتعلة؟ | خالد الشامي

26 Oct 2022
الدكتور خالد الشامي
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

منذ سنوات طويلة، جائني مريض في منتصف الثمانينات، يعاني من سرطان متقدم. يمكن علاجه بالعقاقير، لكن لا شفاء منه.

هذا النوع من المرضى لا يزال يحيرني. و كأن المفروض أن أي شخص يصل لسن الثمانين يجب أن يحصل على إعفاء نهائي من السرطان. لا داعي لهذا المرض. يمكن لأزمة قلبية أو سكتة دماغية أن تنهي الأمر.

المشكلة في السرطان – إمبراطور الأمراض – أنه يرهب و يرعب و يخيف أكثر من كونه يقتل و يقصف الأعمار. هو المرض الإرهابي بإمتياز.

أيجب أن ينشب أنيابه اللعينة في الجدود والجدات الطيبين المسالمين؟ لا يبدو أن السرطان يحترم السن، ولا الجنس، ولا اللون، ولا الدين، ولا أي شيء. الناس أمام السرطان كأسنان المشط. ينتقي منهم من يشاء.

قد يقول قائل: ألا يسبب التدخين السرطان؟ فأجد نفسي مضطرًا لشرح أن العلاقة بين التدخين والسرطان ليست كالعلاقة بالعلة والمعلول، بالسبب أو بالمسبب. التدخين يزيد احتمال الإصابة بسرطانات مختلفة. لكن معظم المدخنين لا يموتون من السرطان. والكثير من غير المدخنين يصابون به. الكلمة الأخيرة هي السرطان واختياراته، لا تراجع فيها ولا تبديل.

‎بدأت كالعادة في شرح طبيعة المرض ونظام العلاج وفرص نجاحه وماذا يعني هذا “النجاح”؟ وما احتمالات حدوث  أعراض جانبية؟ و كيف سيؤثر هذا على حياته اليومية؟

‎وبعد أن انتهيت من كلامي، رفع حاجبين أشعثين، ونظر إلي، وقال: “هل ما تبقى من اللعبة يستحق عناء إبقاء الشمعة مشتعلة؟ وهو مثل بريطاني عن أناس يمارسون لعبة الكوتشينة تحت ضوء شمعة، وبين الفينة والأخرى، يتساءلون إذا كانت اللعبة تستحق عناء وكلفة إبقاء الشمعة تحترق وتضيء.

‎الحقيقة، أسقط في يدي. هذا سؤال صعب جدًا. لا أستطيع أن أجيب عليه.

ما هو الثمن الذي ينبغي أن ندفعه لمواصلة الحياة؟ 

‎لست أدري. لا توجد إجابة تصلح لكل الناس.

‎ لا توجد “إجابة نموذجية”. أو حتى إجابة “صحيحة” (أو حتى خاطئة).

‎قلت له: ما رأيك أن نبدأ العلاج ونجرب، وأنت تقول لي إذا كان علينا أن نستمر في محاولة إبقاء الشمعة مشتعلة أم لا.  وقد كان.

بالفعل استجاب المريض للعلاج لفترة ما، ثم عاد السرطان هائجًا غاضبًا، ورفض أن يستجيب للعلاج. ورحل المريض.

أعود بذاكرتي لهذا اليوم، وهذا السؤال كثيرًا.

هل ما تبقى من اللعبة يستحق إبقاء الشمعة مشتعلة؟

لم تتح لي الفرصة لأسأله عن الإجابة قبل أن يرحل. أو ربما أتيحت الفرصة، لكنني تجنبتها؛ خوفًا من الإجابة.

هل كان المريض يسألني بالفعل بحثًا عن إجابة؟

أم أنه كان ينتظر (أو يتمنى) إجابة محددة؟ أن أجيب بالإيجاب مثلًا. أقول له: “نعم بالتأكيد”. هو يريد مني التشجيع و المؤازرة. يريد مني أن أدعم قراره بالاستمرار في الحياة. هو الخيار الوحيد في الواقع. نحن نعرف قسوة الحياة، ومعظمنا يحتملها مهما اشتدت قسوتها وشظفها وألمها. لكننا لا نعرف شيئًا عن الموت.

نحن نتظاهر أننا نعرف. لكننا في الواقع لا نعرف أي شيء بشكل يقيني. ولن نعرف أبدًا. وبالتالي فالخيار بين ما نعرفه، مهما اشتدت قسوته، و بين ما لا نعرفه، هو خيار سهل جدًا.

طوال حياتي المهنية كان دائمًا مقياس نجاح أي عقار لعلاج السرطان هو قدرته على “إطالة عمر المريض”. قدرته على دفع الموت بعيدًا، ولو بأسابيع.

الموت هو العدو، ولا عدو سواه.

نعم يقولون إن “جودة الحياة” مهمة، وإن الموت بدون ألم محاطًا بالأهل والأحباب والأصدقاء هو هدف نبيل أيضًا. لكنني رأيت الموت كثيرًا. لا يوجد موت بلا ألم. ورحلة الموت نقطعها وحدنا تمامًا. مهما أحاط بنا الناس.

الإجابة على سؤال المريض الذي داهمني فجأة هي “بالتأكيد نعم”. اللعبة تستحق. والشمعة يجب أن تحترق حتى نهايتها. والضوء يجب أن يستمر حتى آخر نقطة زيت في المشكاة.

اللعبة تستحق. هي اللعبة الوحيدة التي نعرفها ونملكها. حتى لو استيقظ الوعي في مكان ما في وقت ما ليمارس اللعب مرة أخرى. فاللعبة التي نعرفها ونحياها ستكون قد انتهت. و لن تبدأ من جديد.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك