ناقد فني
بعدما شغل الإعلام ومنصات السوشال ميديا في دورتيه السابقتين، لم يبق من مهرجان الجونة في موسمه الثالث إلا أزياء السجادة الحمراء، بينما غاب الشق الفني أو كاد. أتفهم جزئيًا لوم التغطية الإعلامية بالتقصير في تغطية “الفنيات”، لكن السؤال الأجدى: هل حضر من “الفنيات” ما يستحق الاهتمام بالأساس؟
كمهرجان وليد يكتسب قيمته من قيمة ما يعرضه، اعتمد مهرجان الجونة في دورتيه السابقتين على تجميع أكبر قدر من الأفلام المهمة عالميًا، والتي خطفت اهتمام الإعلام؛ لمشاركتها في أكبر المهرجانات العالمية، أو لأهمية أسماء صناعها، ليتحول إلى بانوراما لأبرز إنتاجات السينما التي تروي عطش محبيها المنفتحين على الثقافة العالمية، وتجنبهم “اللف كعب داير” على مهرجانات العالم.
الرؤية تغيرت بلا مبرر في الدورة الأخيرة؛ فركزت إدارة المهرجان على الأفلام المغمورة والاكتشافات الخاضعة لأذواق المبرمجين.. ستجد أفلامًا متنوعة المستوى؛ هناك الجيد والممتاز والسيء – بحسب ذوقك – لكن “المهم” يغيب.
كمهرجان وليد – حتى لو بدأ كبيرًا كما يقال – لا يملك مهرجان الجونة السلطة والحيثية الفنية للاكتشاف. لا يتمتع بعد بسلطة ومصداقية توجيه المتفرج “اذهب لرؤية هذا الفيلم الفلبيني.. سيعجبك”.
وبينما نقترب من موسم الجوائز، لا يحمل برنامج مهرجان الجونة عنوانًا داخل هذه الدائرة، رغم عرض معظم الأفلام المرشحة بالفعل في مهرجانات فينيسيا وتورنتو وتيلورايد.
كلما مر وقت على عرض الفيلم زادت فرص قرصنته أو حرقه إلكترونيًا، وبالتالي تراجع الطلب عليه وخفضت شركات الإنتاج ثمنه مهما كان مستواه الفني.
ولسوء الحظ، كان الفيلمان الأهم بالدورة الأخيرة من مهرجان الجونة – “طفيلي” لبونج جون-هو (الحاصل على السعفة الذهبية) و”ألم ومجد” لبيدرو ألمودوبار – متاحين على منصات مشاهدة إلكترونية قبل المهرجان بعدة أسابيع، فلم يضف عرضهما شيئًا إلى المهرجان.
قد يقول البعض: هذا ليس خطأ مهرجان الجونة. لكن جدولة مواعيد عرض الأفلام إلكترونيًا أو تجاريًا محددة مسبقًا، ويترتب عليها ثمن أرخص توزيعيًا للعرض بالمهرجانات.
نصيحتي – حسنة النية – لفريق البرمجة أن يعيدوا التفكير في جدوى التركيز على العناوين الفائزة في مهرجان كانّ الذي يسبق الجونة بخمسة أشهر، وبرلين الذي يسبقه بثمانية أشهر.. مدة طويلة تكون في الأغلب كفيلة بحرق الأفلام.
صحيح أن “البعض يفضل مشاهدة تلك الأفلام على الشاشة الكبيرة”، لكن المهرجان بذلك يسقط من حساباته الأجيال الجديدة وثقافتها المختلفة في المشاهدة، خصوصًا عندما يتراخى في تعويض المحروق بعناوين أخرى براقة لم تُحرق بعد، رغم سماح الوقت والميزانية بذلك.
لعلها سمة مشتركة بين مهرجانات السينما في مصر: “كي يكون الفيلم جيدا فنيًا يجب أن ينطق بلغة تستوجب قراءة ترجمة”. مهرجان القاهرة كسر هذه القاعدة في دورته الأخيرة بعرض سبعة أفلام نافست على الأوسكار، أبرزها Green Book.
أما مهرجان الجونة – الذي يملك مالًا ونفوذًا أكبر – فتجاهل السينما الأمريكية الروائية – الأشهر والأهم عالميًا – بشقيها التجاري والمستقل.
عُرض فيلم أمريكي بعنوان American Skin لا يملك حتى ملصقًا دعائيًا على Imdb وليس بين صناعه نجوم، وأي متابع مخلص للسينما الأمريكية الفنية لن يضعه في قائمة الخمسين الأهم في 2019، مع غياب أفلام من عيار Joker, Marriage Story ،Jojo Rabbit ،Ford V. Ferrari، Hustlers، Waves التي كانت حديث السينمائيين الأول حول العالم.
يبقى اختيار فيلم الافتتاح للدورة وهو Ad Astra للمخرج جايمس جراي والنجم براد بيت لغزًا آخرًا؛ فالعرض الجماهيري للفيلم في صالات السينما المصرية بدأ بالتزامن مع عرضه بمهرجان الجونة، وهنا من حقنا التساؤل: بم انفرد المهرجان؟
الطريف أن Ad Astra كان الأفضل والأهم بين عروض هذه الدورة، لكن توقيت عرضه أعقب حفل الافتتاح، وتزامن مع حفل العشاء الساهر الذي يفضله الحضور على الأفلام، وهي عادة مصرية سيئة السمعة تحدث في كافة المهرجانات للأسف.
شاهدت الفيلم بمسرح الجامعة الألمانية يوم الافتتاح، وكان عدد الحضور بائسًا، معظمهم من السياح الأجانب. التغطية الصحفية والنقدية ظهرت ضعيفة بالطبع. وهنا السؤال عن مدى وعي الحضور بأولوية الأفلام التي تستحق المشاهدة!
لعل الواعين منهم فضلوا مشاهدة الفيلم في الصالات التجارية بعد انتهاء المهرجان، وهو ما يؤكد طرحنا بعدم جدوى إحضار الأفلام المحروقة.
نظريًا، ليس على المهرجانات أن تعرض أفلامًا تنتمي لدولة الضيافة. عمليًا، يضمن الفيلم المحلي جذب التغطية الإعلامية، وكذلك الاهتمام العام بأفلام الدورة التي تنافسه.
أكثر ما نفع الدورات السابقة من مهرجان الجونة انفراده بالعروض الأولى لأفلام من عيار “شيخ جاكسون”، “فوتوكوبي”، و”يوم الدين”. هذا العام راهن المهرجان على “لما بنتولد”، وهو فيلم دون المستوى بشهادة معظم الحضور.
إدارة المهرجان نفسها أقرت بهذا الانطباع، فاستبعدته من المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة، وعرضته على هامش المهرجان.
غياب الفيلم المصري ليس جديدًا. مهرجانات مصرية أخرى اعتادت تبرئة نفسها بدعوى فقر الساحة الإنتاجية وهبوط المستوى العام، لكن مهرجان الجونة لا يملك ترديد نفس الحجة؛ لأنه يقدم نفسه منذ الدورة الأولى ليس كعارض للأفلام فحسب، بل كممول وداعم لها بمبادرات وصناديق مختلفة على غرار صندوق “سند” السابق بمهرجان أبو ظبي، والذي كان ينتفع بتمويل الأفلام العربية مرة بإنتاجها، وأخرى بعرضها.
مهرجان الجونة في هذه الدورة لم يستفد بشكل كبير من دعمه للأفلام. فما الفائدة إن لم يستطع – على الأقل – تحقيق اكتفاء ذاتي من أفلام مصرية تصلح للعرض في مسابقاته الرسمية؟
المحاضرات التعليمية أو الندوات التي يلقيها الصناع وخبراء السينما كانت الأكثر تميزًا منذ انطلاق مهرجان الجونة. فكرة كانت تتبعها مهرجانات عالمية وعربية، وجاء الجونة ليطبقها بتميز في دورتيه السابقتين، بأسماء ثقيلة عالميًا ومواضيع جذابة.
في دورته الأخيرة، اتسمت المحاضرات بالوهن بمواضيعها المكررة والمملة وبأسماء الضيوف المغمورين. تخيلوا أننا على مشارف 2020 وما زال هناك من يتحدث في قضية اللاجئين وسينما اللاجئين وأي جملة مفيدة آخرها كلمة لاجئين، وهي الكليشيه الأبرز في السنوات الخمس الماضية، أليس كافيًا ما قيل؟
محاضرة أخرى عن توزيع الأفلام، وجد مثلها في الدورات السابقة، ومحاضرة عن حفظ وترميم الأفلام لضيفة أمريكية لا تعلم شيئًا عن موقف السينما المصرية والعربية من هذه القضية، وتتحدث عن أفلام أجنبية مغمورة ومواضيع خارج السياق تمامًا. الموضوع جاذب بالتأكيد، لكن اختيار المحاضر وأسلوب التناول دفعني للتفكير في المغادرة مع الدقائق الأولى.. لولا الذوق.
نوع آخر من المحاضرات يلقيها صناع السينما الكبار حول مشوارهم ومناهجهم في الصناعة.. لا أقصد التقليل من أسماء “مي مصري” و”فريد بوغدير”، لكنني أتساءل عن سبب الاكتفاء باسمين عربيين وغياب أسماء عالمية لها ثقل حقيقي؟ بالمقارنة مع أسماء محاضرين الدورات السابقة، المخرج أوليفر ستون والكاتب بول هاجس مثلاً، أو بمقارنة أسماء المحاضرين في مهرجانات عربية وإقليمية أخرى لن أذكرها، الجونة يتراجع بوضوح في هذا النوع من الفعاليات.
هذه النقطة ليست متعلقة بالفنيات، لكنها مؤشر على أداء إدارة المهرجان فيما يخص الدعاية والإنفاق، ما يمكن إسقاطه على بقية فروع المهرجان.
صحيح أن مهرجان الجونة جلب “مينا مسعود”، وهو اسم عالمي صار مهمًا في الشهور الأخيرة بفضل فيلم علاء الدين، لكنه لا يتعامل على هذا الأساس؛ إذ كان محرك حضوره الأساسي الانتماء لمصر، وسعادته باعتراف المجتمع الفني المصري به. لا أعتبر إحضاره إنجازًا كبيرا للمهرجان بحد ذاته، لكنني أشك أن هذا الحضور حرّك الكثير من المياه الراكدة.
ختامًا.. لا شكّ في وجود نقاط إيجابية في الدورة الثالثة للمهرجان، أولها القدرة على الاستمرار ذاته.
إعلان خطط بناء مسرح مهيب لعرض فعاليات الدورة الرابعة على غرار قصر المهرجانات بمدينة كانّ الفرنسية نقطة إيجابية أخرى، بعدما صار مسرح المارينا المكشوف عبئًا في المشاهدة مع اختلاط أشرطة صوت الأفلام بأصوات الديسكوهات والحياة الليلية على شواطئ الجونة.
انبهرت كذلك بمستوى الفيلم السوداني “ستموت في العشرين” للمخرج أمجد أبو العلاء، وهو قصيدة سينمائية عن الموت بعثت الحياة في سينما سودانية غير موجودة.
المهرجان أصبح قبلة للأفلام العربية غير المصرية بعد تعثر مهرجاني أبو ظبي ودبي، ولقدرة مؤسسي الجونة المادية على إحضار تلك الأفلام، لكنه سيواجه منافسة شرسة في الأعوام المقبلة مع تأسيس مهرجان البحر الأحمر في السعودية، والذي يملك المال والنفوذ للمنافسة على عرض الأفلام العربية الجديدة، ولعلها فرصة ليعود الجونة لصبغة البرمجة الدولية المعنية أكثر بالسينما العالمية، والعودة لفلسفة الدورتين السابقتين الأكثر نجاحًا.