عدد الأحلام التي أتذكرها على مدار حياتي ربما لا يتجاوز أصابع اليدين. لكنني بعد حملة الدحيح رأيت أحمد الغندور في المنام، يشكو إلي من “عقبات إنتاجية” لا أهمية لها هنا.
المهم، أن هذا مؤشر إلى أهمية هذا البرنامج بالنسبة لي، كأفضل محتوى لتبسيط العلوم باللغة العربية، الذي نجح في جمع جمهور عام حول أفكار صعبة، قدمها في لغة بسيطة ومسلية.
هذه المقدمة ضرورية لبيان مدى إعجابي بما يقدمه أحمد الغندور الذي أعتبر نفسي واحد من جمهوره، ومشجعيه، قبل أن أنتقل إلى ثلاث نقاط استوقفتني في أزمته الأخيرة:
عرض أحمد الغندور برنامجه “الدحيح” سابقًا في قناة الجزيرة القطرية، في عز الأزمة القطرية المصرية، حين كانت أموال قطر تحرض على الاستقرار في مصر، وتدعم جماعة إرهابية تحرض على مصر في كل مكان، فضلًا عن أنها كانت السبب الأول في الضيق الاجتماعي الذي أفنى أعمارنا ومرر حياتنا.
أثار هذا تشكك بعض من محبي الدحيح، ومتابعيه، كون شعبية برنامجه تستخدم للترويج لقناة تضرب مصالح بلده وتناصبها العداء.
لكن لم تخرج دعوات كبرى منظمة لمقاطعته، بسبب “موقف قطر من مصر”.
ولم يضطر هو نفسه يومًا للخروج ببيان يتنصل فيه من أي سياسة قطرية تستهدف بلاده.
الآن، وبعد حلقة أولى من برنامجه الدحيح على منصة إماراتية، خرج أحمد الغندور ربما لأول مرة عن صمته، ليتبرأ من أي سياسة “تطبيعية”.
لاحظوا الفارق بين مؤيدي مصالح بلدهم، وهم أفراد، وبين مؤيدي التحالف العثماني الأممي وهم تنظيمات.
هذه التنظيمات قادرة على نقل ممارساتها الاجتماعية إلى قطاع الثقافة. التكتل للتحرش بمخالفيها ومطاردتهم حتى يتبرأوا من أفعالهم ويظهروا الالتزام الكامل.
تنظيمات لا تتسامح، ولا تسمح. لا في البناية، ولا الشارع، ولا السوشال ميديا، ولا الإنتاج الأدبي. تريد سلطة كاملة عليك. وقادرة على إرغامك على الإذعان.
هذا هو الواقع الذي نعيش فيه، مع منتهى الأسف. يعيشه الموظف، وتعيشه المرأة كونها امرأة، ويعيشه الكاتب، ورأينا نموذجه في إنفلونسر شهير.
الفعل التنظيمي هذا في عالم السوشال ميديا لا يعرف حسن النية في ترجمته وتفسيره. بل يترجم إلى دليل على قوة أنصار رأي معين. بمعنى أنه يترجم على أن مؤيدي تيارات قطر أقوى نفوذا من مؤيدي مصر.
والدليل على هذا هو المفارقة الثانية في نفس النقطة.
كنت واثقًا من أن أحمد الغندور سيتجاهل هذه الدعوات كما تجاهل الاتهامات بأنه يتعاون مع قناة معادية لبلده، (ولأن مصر أولى من غيرها). لكن يبدو أن الضغط أقوى مما تخيلت.
غزو الكويت دشن المشروع الإخواني القطري | خالد البري
هنا نأتي إلى الإمارات وقطر. المعضلة الكبرى التي لا أعجز عن فهمها، ولا سيما في الأوساط الثقافية.
قطر مولت خلال السنوات العشرين الأخيرة دور نشر ودور إعلام بعدد شعر رأسك. وعمل في هذه المؤسسات ولا يزال معظم الذين تقرأ لهم في مجال الثقافة.
مولت ولا تزال مؤسسات إسلامية ويسارية ومنظمات مجتمع مدني أكثر من كل الدول الأخرى مجتمعة.
بعد ٢٠١١ انتبهت أخيرًا دول، ومن بينها الإمارات، إلى أهمية هذا التنافس الإعلامي. فبدأت تنشئ هي الأخرى مؤسسات.
وسبحان الذي لا يغفل.
مثقفونا بلا أي مراجعة للذات، قرروا أن أي مؤسسة الإماراتية – وهي دولة حليفة لمصر – مؤسسة مشبوهة، وتحتاج إلى تبرير أفعالك لو عملت في مؤسسة إماراتية.
أما المؤسسات القطرية التي كانت مسخرة لخدمة التنظيم الإرهابي، فمن العادي أن تعمل فيها. لن يلومك أحد.
حدث هذا قبل اتفاقات السلام مع إسرائيل بكثير، حتى لا ننسى. وحتى نستطيع أن ننتقل بسلاسة إلى النقطة الثالثة في موضوع الدحيح .. التطبيع.
عودة أحمد الغندور | دح الدحيح أم “أح” التطبيع؟ هذا هو السؤال | حاتم منصور
المعنى اللغوي هو تحويل العلاقات إلى علاقات طبيعية. وهو نفسه المقصود من لفظة “السلام”.
أما المعنى السياسي فيريد أن يحول الأمر إلى مرحلتين: السلام شيء، والتطبيع شيء آخر.
الغرض من ذلك أن يصير السلام – في حقيقته – مجرد هدنة. وأن يترسخ هذا في الأذهان. لاحظوا أن الهدنة تعني استمرار الحرب، وإن أوقفتها إلى أجل.
وهذا تلاعب بالألفاظ تلف به التيارات السياسية وتدور لكي تخدم وتؤكد المعنى الديني الذي يتبناه الإسلامجية. أننا في حرب قائمة مع اليهود، حرب ممتدة. حتى يوم الدين.
لا. نحن لسنا في حرب مع اليهود. ألا يملك أحد الشجاعة لكي يقول هذا، فيعفينا من سيطرة الفكر الديني السياسي علينا؟ الفكر الذي يدور ويلدغنا ويمص أعمارنا اجتماعيا بعد ذلك، إذا لا فاصل بين الأمرين.
هناك حركة تاريخية استولى فيها البيزنطيون والفرس وغيرهم على أراضٍ، ثم استردت منهم، أو استلبتها منهم قوى أخرى. واستولى المسلمون على أراض ثم استردت منهم، أو استلبتها قوى أخرى. إلخ.
حركة لم تتوقف. مصر مثلًا لم تكن عربية ولا مسلمة. وهكذا الساحل الشمال أفريقي. ولا القسطنطينية (التي بناها قنسطنطين).
إن الخراف بأرضنا تستذئب .. حدثني عن سليم الأول لا محمد الفاتح! | خالد البري
في ظل هذه الحركة التاريخية هناك صراع حاليًا في أرض إسرائيل/ فلسطين. صراع سياسي وتاريخي على الأرض، تستدعى فيه أحقيات دينية. لو اختصرنا هذا الصراع في الدين فالغلبة لإسرائيل. إنما في الصراع السياسي التاريخي فرصة الفلسطينيين أحسن.
الصراع الديني يريد الحرب قائمة حتى لو تخللها هدنة. الصراع السياسي أدواته متعددة. إن اخترت السلام، إن قدمت الوعد ووقعت عليه، فأنت تعني السلام.
أما إن سميت الهدنة سلاما، وسميت السلام تطبيعا (بالمعنى السلمي) فهذا يعني أنك تضمر الحرب، كما يفعل الإسلامجية وذيولهم. فما الضير في هذا؟
المواقف المتعصبة، وقد يظن أصحابها أنها تفيد قضيتهم، تضرها. لماذا؟ لأنها ستجعل اليهود – وأنا أتعمد استخدام الكلمة – متشككين هم أيضًا في النوايا. هم ليسوا أغبياء. وإحساسهم بالخطر الوجودي أكبر من إحساسك به لأسباب معلومة.
إن كنت أنا أستطيع أن أرى أن الإصرار على التفريق بين السلام والتطبيع يعني ببساطة نية الحرب، ويعني تحويل السلام إلى هدنة. هل تعتقد أنهم عاجزون عن رؤية ذلك؟ وهل تتوقع إن رأوا ذلك غير أن يعتبروا أن السلام خدعة يريد منه الآخرون حيازة أرض أكبر للمعركة القادمة!!
نعود إلى الدحيح: نخبة المجتمعات التي نعيش فيها مصرة على ترويج هذا المعنى الديني المضر. وبكم من الضغط والهيمنة الثقافية، يصعب حتى على ذوي العقول النيرة – مثل أحمد الغندور في الدحيح – مقاومتها.
وأقول يقاومها بمعنى يتجاهلها، لم يطلب منه أحد أن يسير عكس التيار. فهذا اختيار سياسي لدول.
كنت أحسب أنه يستطيع أن يرى أن موضوع التطبيع من ناحية مجرد تكئة تكمل ثنائية عداء الإسلامجية وذيولهم للإمارات حليفة مصر، ودعمهم لقطر حتى حين جاهرت بالعداوة لمصر.
ومن ناحية أخرى، لأنه قادر على رؤية الفارق في تعاملهم مع تركيا، صاحبة أعلى معدل تبادل تجاري مع إسرائيل، وصاحبة أعلى عدد سياح من إسرائيل، وحليفة الناتو.
لقد صار الثقافة السائدة المهيمنة، بمفرداتها التفصيلية، عصية النقد حتى على ذوي العقول المتميزة. وهذا أيضًا – للأسف الشديد – يخبرنا إلى أي حد سيطر العقل السياسي الديني وتوغل في مؤسساتنا الثقافية.
أحاديث آخر الزمان | متى ظهرت أحاديث قتال الترك؟ ولم اختفت؟| هاني عمارة