يرى تقييم بي بي سي فيوتشر، أن الأديان - تمامًا كالبشر - تمر بثلاثة مراحل أساسية: الولادة - النمو - الموت.
تبدأ الدعوة إلى الأديان الجديدة فتتعرض لكثير من الرفض في البيئة التي ولدت بها، ثم تبدأ مرحلة التعرف على نوع الإيمان الذي يدعو له، ثم تعتنقه مجموعات تتوسع باستمرار، حتى تتعامل عند مرحلة معينة مع تعاليمه باعتبارها خالدة ومقدسة.
ثم تمر دورة التاريخ، ويتضاءل أتباع الدين أو يختفون، فتختفي عنه هالة القداسة ويتحول إلى خانة الخرافة أو الأساطير، كما حدث في حكايات البانثيون المصرية واليونانية.
حتى الأديان السائدة اليوم تطورت باستمرار عبر التاريخ، مثل المسيحية المبكرة مثلًا، والتي استغرقت ثلاثة قرون لتستقر حول شريعتها، قبل أن تنقسم في 1054 بين الكنائس الأرثوذكسية الشرقية والكاثوليكية. منذ ذلك الحين، واصلت المسيحية انقسامها إلى مجموعات متباينة.
في القرن الثامن عشر، قال الفيلسوف الفرنسي فولتير: “إذا لم يكن الله موجودًا، فسيكون اختراعه ضروريا”. مجادلًا بأن الإيمان ضروري لكي يعمل المجتمع، حتى لو لم يوافق على احتكار الكنيسة لهذا الاعتقاد.
يتفق العديد من دارسي الأديان المعاصرين على أن الفكرة الأساسية للدين هو الإيمان المشترك الذي يخدم احتياجات المجتمع باسم النظرة الوظيفية للدين.
هناك العديد من الفرضيات الوظيفية للدين، من فكرة أن الدين هو “أفيون الشعوب” الذي يستخدمه الأقوياء للسيطرة على الفقراء، إلى الاقتراح القائل بأن الإيمان يدعم الفكر التجريدي المطلوب للعلم والقانون.
لكن أحد الموضوعات المتكررة هو التماسك الاجتماعي: الدين يوحدّ مجتمعًا، أو يدعم حزبًا سياسيًا.
منذ أوائل القرن العشرين، يجادل علماء الاجتماع بأن مسيرة العلم تؤدي إلى “خيبة أمل” في المجتمع، حيث لم تعد هناك حاجة إلى إجابات خارقة للطبيعة على الأسئلة الكبيرة، ولذلك تبنت الدول الشيوعية مثل روسيا السوفيتية والصين الإلحاد كسياسة دولة.
في 1968، قال عالم الاجتماع البارز بيتر بيرجر لصحيفة نيويورك تايمز إنه "بحلول القرن الحادي والعشرين، سيختفي المؤمنون المتدينون إلا في طوائف صغيرة، يتجمعون معاً لمقاومة الثقافة العلمانية في جميع أنحاء العالم”.
الآن بعد أن وصلنا فعليًا إلى القرن 21، تظل وجهة نظر بيرجر بمثابة “الحقيقة” لكثير من العلمانيين.
هذا تحقق في الدول الغنية والمستقرة مثل السويد واليابان، ولكن أيضًا، ربما بشكل أكثر إثارة للدهشة، في أماكن مثل أمريكا اللاتينية والمنطقة الناطقة بالعربية، وحتى في الولايات المتحدة التي أصبح الملحدون فيها أكثر من المسيحيين الإنجيليين.
في 2005، كتبت أستاذ علم الاجتماع الديني بجامعة لانكستر، ليندا وودهيد، دراسة "الثورة الروحية”، التي وجدت فيها أن الناس يتحولون بسرعة عن الدين المؤسسي، نحو ممارسات مصممة لإبراز وتعزيز شعور الأفراد بأنفسهم .
وخلصت إلى أنه إذا لم تتبن المؤسسات الدينية هذا التحول، فستتراجع التجمعات الدينية، وستصبح الممارسات الموجهة ذاتياً هي السائدة في “الثورة الروحية”.
اليوم، تقول وودهيد إن الثورة حدثت، وتراجع الدين المنظم في بريطانيا، حتى بين المجتمعات الفقيرة، كما رصدت بدء الناس بناء معتقداتهم الخاصة،
ما اعتبرت أنه يمهد الطريق لعودة الاهتمام بما يشبه "الوثنية"، عبر إعادة ابتكار تقاليد أصلية نصف منسية تسمح بالتعبير عن الاهتمامات الحديثة بعد خلطها بالممارسات القديمة،
لتظهر ما يمكن تسميتها بـ "ديانات غير منتظمة" بين الاتجاه الجديد الذي انتجه جيل جديد من "اللا مبالين" وهم من لا يهتمون بممارسات دين معين، لكنهم يواصلون اختياره على الورق.
من المرجح أن تستمر ديانات العالم التقليدية وتتطور في المستقبل، لكن تلك "الأديان الصغيرة نسبيًا" تتصاعد أيضًا بين هذه المجموعات.
المجتمع الحديث يعاني من “الإرهاق الزمني”، هذا ما قالته عالمة الاجتماع إليز بولدينج. التي كتبت: “إذا كان المرء مرهقًا طوال الوقت من تعامله مع الحاضر، فليس هناك طاقة متبقية لتخيل المستقبل”.
لذلك قد تقوم إحدى الديانات الرئيسية بتغيير شكلها بما يكفي لاستعادة غير المؤمنين بأعداد كبيرة.
هناك سابقة لذلك: في القرن الثامن عشر الميلادي، كانت المسيحية تعاني من الوهن في الولايات المتحدة، بعد أن أصبحت مملة ورسمية
حتى مع دخول عصر العقل الذي يرى العقلانية العلمانية في الصعود، نجح أحد دعاة الدين الجدد في ذلك الوقت في إحياء الإيمان بنجاح، ووضع نغمة لقرون قادمة – وهو حدث يسمى "الصحوة الكبرى".
في المقابل تشكك وودهيد في أن المسيحية أو الديانات العالمية الأخرى يمكن أن تعيد تشكيل الأرض التي فقدتها، فلم يعد هؤلاء هم الرعاة الرئيسيين للفكر، فالتغير الاجتماعي يقوض الأديان التي لا تستوعبه،
وقد حذر البابا فرانسيس من أنه إذا لم تعترف الكنيسة الكاثوليكية بتاريخها في هيمنة الذكور والاعتداء الجنسي فإنها ستخاطر بأن توضع في المتحف.
ربما سيظهر دين جديد لملء الفراغ؟ تشكك وودهيد مجددًا؛ لأن التاريخ يرصد أن الدعم السياسي وحده هو ما كان يجعل الديانات تنمو أو تنهار.
وفي الغرب العلماني، من غير المرجح أن يكون هذا الدعم وشيكًا، باستثناء الولايات المتحدة.
لكن اليوم، هناك مصدر داعم آخر محتمل: الإنترنت؛ والذي يشهد تأسيس حركات جديدة تكتسب أتباعًا بوتيرة سريعة، كما حدث مع موقع LessWrong، الذي تأسس لمناقشة تجربة فكرية حول جهاز كلي الذكاء وفائق الذكاء – مع العديد من صفات الإله وشيء من طبيعة وصفه في العهد القديم.
كان يطلق على هذا الإله Roko Basilisk، وهو لغز معقد، يعتمد على ظهور الذكاء الاصطناعي الفائق الخارق، لكنه سيبقى خيرًا، وسيشجع الجميع على القيام بكل ما هو ممكن للمساعدة في الوصول إلى حقيقة الوجود، لكنه سيعذِّب أولئك الذين لا يفعلون ذلك.
تقول بيث سينجلر، باحثة الآثار الاجتماعية والفلسفية والدينية في جامعة كامبريدج: في القرون الوسطى كان الخروج عن المألوف وإعلان الأفكار الجديدة زندقة، أما في عصر الانترنت فقد تغير الوضع تمامًا.
ربما لا تموت الأديان أبدًا، وربما تكون الديانات التي تنتشر في العالم اليوم أقل دوامًا مما نعتقد.. وربما بدأ الإيمان العظيم للتو.