قبل رحيل الخليفة العباسي الشهير هارون الرشيد، أقدم على خطوة فريدة في تاريخ الإسلام، وهي تقسيم الدولة بين أبنائه.
عيّن ولده الأمين خليفة على بغداد، والمأمون وليًا لعهد الأمين وأميرًا على ولاية خراسان.
علّق هارون أسفار “تقسيم الدولة” في الكعبة، وأخذ على ولديه المواثيق الغليظة للالتزام بها.
إلا أن هذه الأسفار ستتحوّل إلى حبرٍ على ورق خلال سنوات معدودة.
فما كان لمثل هذا القرار أن يُنفذ أبدًا؛ في ظل طموح كلٍّ من الأمين والمأمون إلى لقب الخلافة، لم تكن دولة الإسلام لتتسع لهما معًا أبدًا.
وسرعان ما اندلعت بينهما حرب ضارية، لعبت دورًا كبيرًا في تغيير منظومة الحُكم العباسي لمئات السنوات اللاحقة.
وُلد الأمين والأمون في نفس العام 170هـ
تربّى الأمين على يدي أمه زبيدة بنت جعفر المنصور، أما المأمون فلقد توفيت والدته الفارسية "مراجل" وهو لا يزال طفلاً، فاعتنى به الوزير جعفر البرمكي/الفارسي.
خضع الأخوَان لمنهج تعليمي واحد تضمّن أبرز العلوم الشائعة في عصرهما كالبلاغة والشعر والتاريخ والفقه والحديث، إلا أن المأمون عُرف عنه الإقبال على العلم أكثر من أخيه.
تتلمذ الأخوَان على يدي أكبر علماء عصريهما؛ ابن حنيفة، والكسائي، والمقرئ وغيرهم من كبار الفقهاء.
عند وفاة الرشيد، كان الأمين في بغداد والمأمون في مرو.
لم تكن العلاقة بينهما قد فسدت بعد، ففور معرفة الأخير برحيل أبيه أرسل كتابًا إلى أخيه يُهنِّئه بالمنصب ويُجدّد بيعته له، ملحقًا به ببعض الهدايا النفيسة.
مثّل صعود الأمين والمأمون إلى رأس الخلافة نقطة الفصْل في صراع أكبر جرى بين الفرس والعرب، أبعد كثيرًا من هذه اللحظة.
فلقد مثّلت بعثة النبي، وما نتج عنها من دولة الخلفاء الأربعة من بعده، نقطة تفوق عسكري وسياسي للعرب على جيرانهم الفرس ذوي الحضارة شديدة العراقة.
فلطالما نظر العرب للفرس ككيان عظيم يجب اتّباعه في كل شيء؛ دانت بعض العرب بالمجوسية وكانوا يتداولون الحكايات الفارسية في مجالسهم، واعتبروا تقاليد الفرس في الأكل والشرب ضرورية الاتّباع.
هذا التأثير كان أشدّ ما يكون عند عرب الشمال، وتحديدًا إمارة الحيرة التي دان ملوكها بالطاعة لإمبراطور الفرس بشكلٍ مُباشر.
ظهور الإسلام، ومانتج عنه من تدشين دولة قوية توسّعت تدريجيًا حتى تجرأت على غزو بلاد فارس ذاتها، حيث أطاحت بالعرش الكسراوي، أوقع الفرس تحت حُكم العرب لأول مرة في تاريخهم.
مثّلت الإطاحة بالدولة الفارسية/ الساسانية صدمة للفارسيين، ولم يتخيلّوا أن تُصبح بلادهم مجرد إمارة في كيان عربي كبير، بعدما كانت دولة عُظمى في الماضي القريب،
اعتمدت دولة الرسول وما بعدها في عصور الخلفاء ثم الدولة الأموية على العنصر العربي في الإدارة بشكلٍ تام.
أظهر الأمويون تأثرًا بحضارات الدول القريبة، لكنهم أبدوا اهتمامًا أكثر بالاستئناس الحضاري بجيرانهم في الشام الروم/ البيزنطيين.
ولم يلعب الفرس -وغيرهم من الأعراق غير العربية التي سُميت بـ"الموالي"- دورًا كبيرًا في عهد دولة أحفاد معاوية.
وهو ما تغيّر تمامًا عند قيام الدولة العباسية، والتي نشأت بعد صراع مع الدولة الأموية كان الحضور الفارسي فيه قويا، حتى لحظة اقتحام الجيش العباسي أسوار دمشق، والإجهاز على الدولة الأموية.
مثّلت الدولة العباسية إجهاضًا لمفهوم "الإمبراطورية العربية" الخالصة،
أصبح الفرس وزراء وقادة جيوش، أشهرهم آل البرامكة الذين ظهر نفوذهم مع اللحظات الأولى لقيام الدولة العباسية.
لذا شهد العصر العباسي الأول قيام حركة "الشعوبية"، والتي سعت لنزع القداسة التي حاول الفقهاء إضفاءها على العرب كجنسٍ سامٍ اختصّه الدين بالتفوق على غيره.
انشقّ المجتمع العباسي؛ أيّهما أفضل "العرب" أم "الفرس"؟ وفي سبيل ذلك دارت معارك شعرية وبلاغية ودينية، استدعى فيها كل طرف ما استطاع من أدلة تؤكد أفضليته على الجنس الآخر.
ألّف الفرس عشرات الكتب التي تتحدث عن "مثالب العرب"، وهو ما استدعى ردًّا فكريًّا عربيًّا، أشهر أشكاله ما فعله الجاحظ بكتابه "الحيوان"، الذي أفسح مساحات كبيرة فيه للطعن في الفرس.
اعتبر الجاحظ، أن هذه المعارك الإثنية إنما قامت بسبب رغبة الفرس في الثأر لضياع مُلكهم على أيدي العرب قديمًا.
الإسفين الأول في العلاقة بين ابني هارون دقّه كبير الوزراء الفضل بن الربيع، الذي اختار الانحياز إلى الأمين، معتقدًا أنه ضعيف الشخصية تسهل السيطرة عليه.
لم يكتفِ الفضل بذلك، وإنما بذل جهودًا لإقناع قادة الجيش بتقديم فروض الطاعة للأمين، وهو ما فرح به الأمين بشدة، حتى أنه أمر بصرف راتب سنتين لكل جندي بايعه على الطاعة والولاء.
أوقعت هذه الخطوة المأمون في ورطة، وبدا عاجزًا على السيطرة عن دولته الخرسانية، لولا أن أحاط نفسه بمجموعة من المستشارين الفرس الأكفاء، على رأسهم: الفضل بن سهل، وهرثمة، وطاهر بن الحسين الخزاعي، الذين لعبوا دورًا كبيرًا في الحفاظ على طموحات المأمون في امتلاك السُلطة.
سريعًا تماسك وضع المأمون، والتفّ حوله أهل فارس باعتبار أنه تلقّى تربية فارسية كما أنه "ابن شقيقتهم"، وبايعوه على الحرب معه حتى يملك بغداد.
بناءً على نصيحة الفضل، عزل الأمين المأمون من ولاية عهد الخلافة، وعيّن بدلاً منه ابنه موسى ولقّبه بـ"الناطق بالحق".
كما أمر الأمين بإزالة "مراسيم البيعة" التي أقرّها عليه أبوه من الكعبة، ومزقها بنفسه.
وأمرّ مساجد بغداد بالكفِّ عن الدعاء للمأمون بصفته وليًا للعهد.
رفض المأمون قرار الإطاحة به من منصب ولي العهد، فأرسل له الأمين كتابًا حذره فيه من إشعال "نار لا قبل له بها".
لم يستجب المأمون، وفرض حالة الطوارئ في مرو، وأغلق حدوده الغربية المتماسة مع مُلك أخيه، وأطلق عيون العسس (الشرطة) في الأنحاء لرصد أي دعايات تحريضية تأتي من بغداد.
مضى الأمين إلى ماهو أبعد من التراشق اللفظي بين الأخوين؛ بادر بإرسال جيش من 50 ألف مقاتل إلى الريِّ حيث التقى بجيش المأمون، وتلقّت قوات الأمين هزيمة ساحقة.
وعقب انتصاره الكبير، تشجّع قائد جيوش المأمون طاهر بن الحسين أكثر فأكثر، فعبر حدود ولاية الأمين ومضى في طريقه إلى بغداد مكتسحًا أمامه كل قوة حاولت صدّه.
إزاء هذا النجاح العسكري الباهر، بايع أهل فارس المأمون خليفة للمسلمين.
في الوقت نفسه كان العراق ينفضُّ عن الأمين، بعدما اعترف ولاة الكوفة والبصرة بطاعة المأمون، وكذلك فعل والي الحرمين، قلب العالم الإسلامي ومصدر الشرعية الأساسي.
في 197هـ وصلت القوات المأمونية إلى بغداد، حيث ضربت عليها حصارًا خانقًا استمرّ عدة أشهر.
يقول المؤرخ الهندي سيد أمير علي: استنفد الأمين كافة أموال الدولة، حتى أنه أمر بتحويل الآنية الذهبية والفضية إلى دراهم ووزّعها على جنوده، وهُدمت قصور بغداد العامرة بفعل الحرب.
ازداد موقف الأمين صعوبة حتى أن بعض مستشاريه نصحوه بالهرب للشام، لكنه رفض واختار الاستسلام، تحديدًا إلى القائد "هرثمة" في جيش المأمون؛ لأنه خدم أبيه هارون طويلاً.
تلقّى الأمين تعهدًا بالحفاظ على حياته فور استسلامه. لم يلتزم الجنود في جيش المأمون بهذا، وفور القبض على الأمين، أمر قائدهم طاهر بن الحسين بذبحه وتعليق رأسه على أسوار بغداد.
في 204هـ، دخل المأمون بغداد لأول مرة، حيث حكم البلاد رسميًا من قصر الخليفة.
جرت محاولات عديدة من الفرس لدعم وصول العلويين إلى السُلطة لم تُحقق نجاحًا إلا في عهد المأمون.
فبتأثيرٍ من مستشاره الفضل بن سهل، اتّخذ قرارًا خطيرًا بتولي الإمام العلوي علي بن موسى الرضا - الإمام الثامن من الأئمة الـ ١٢ عند الشيعة - وليًا لعهده،
وأمر المأمون جنوده بلبس الخُضرة (شعار كسرى) بدلاً من الأسود (شعار العباسيين)، ما يُنذر بتحوّل تام في بنية الخلافة.
لم يكتمل هذا التحول بسبب ثورة الهاشميين والعباسيين على المأمون، وتهديدهم له بالخلع لو استمرّ على هذا القرار، فتراجع عنه وأمر بقتل الفضل بن سهل،
ؤسّع المأمون مبدأ الاعتماد على الفرس في إدارة دولته.
فترة خلافة المأمون شهدت ازدهارا كبيرا في العلوم، وفي حركة الترجمة، إلى الدرجة التي يعتبرها باحثون قمة ما وصلت إليه الحضارة الإسلامية.
لكنها من الناحية الأخرى دشنت انتقال النفوذ السياسي بعيدا عن العرب. بعد المأمون حكم أخوه المعتصم، الذي كانت أمه رومية، واعتمد أيضا على العنصر الرومي بكثرة، تجنبا للخلافات بين العرب والفرس.
بدءا من خلافة المعتصم، وبغض النظر عن شخص الخليفة ونسبه العرقي، تحول النفوذ العسكري بعيدا عن أيدي العرب.
مختصر تاريخ العرب والتمدن الإسلامي، سيد أمير علي (كتاب)
الفتنة في عهدي الأمين والمأمون، أحمد الخطيمي (كتاب)
الدولة العباسية من الميلاد إلى السقوط، محمد قباني (كتاب)
الزندقة والشعوبية مع بداية ظهور الدولة العباسية، عامر المرسومي (بحث)
العادات والتقاليد الفارسي في البلاط العباسي، كمال الحاج (بحث)
تطور مواقف كبار قادة الفرس تجاه الخلافة العباسية، رشا حمدي (بحث)