في البدء كانت الزراعة ثم البيت الأبيض | كيف بنت مصر القديمة أقدم دولة في التاريخ؟ | مصطفى ماهر

في البدء كانت الزراعة ثم البيت الأبيض | كيف بنت مصر القديمة أقدم دولة في التاريخ؟ | مصطفى ماهر

4 Apr 2021
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

عرف الشرق القديم العديد من التجارب الحضارية التي أضافت للبشرية أغلب المنجزات الكبرى التي ساهمت في دفع عجلة التطور الحضاري. لكن تجربة دولة مصر القديمة على ضفاف النيل كانت الأكثر تميزًا، خصوصًا في عملية تنظيم المجتمع، حتى أن بعض المؤرخين أطلقوا عليها مصطلح “المعجزة المصرية”. 

فكيف أسست مصر القديمة أول دولة موحدة في التاريخ؟ وعلى أي أساس قامت إدارة النظام السياسي القديم الذي استمر لأكثر من 3,000 عام؟

حركة الجغرافيا

منذ عصور ما قبل التاريخ، تأسست في مصر القديمة مملكتان على ضفاف النيل: الأولى في أراضي مصر العليا (الصعيد الآن) والأخرى في مصر السفلى (الدلتا الآن). يعرف ذلك العصر بفترة ما قبل تأسيس المملكة الموحدة أو ما قبل عصر تأسيس الأسرات. 

طبيعة الصعيد محدودة العطاء إذا ما قورنت بثروات الدلتا الوفيرة في محاصيلها، بالإضافة إلى تطلع أهل الجنوب لمنفذ يطل على البحر المتوسط، دفعهم للزحف دائمًا باتجاه الشمال.

وساعدت الطبيعة الجغرافية المتمثلة في مجرى النيل، الذي يربط مصر القديمة من شلالات أسوان في الجنوب إلى تفريعات النيل في أقصى الدلتا عند مصب البحر المتوسط، على سهولة التواصل والتنقل والحركة في تلك العصور القديمة، فتيسرت أمور التجارة وتبادل السلع ومعها اتسعت شبكة القرى والمدن تدريجيًا، فساعد النيل – بربطه جغرافيًا بين الشمال والجنوب – على تسهيل ذلك المطمح السياسي لتأسيس مملكة مصر القديمة الموحدة. 

ما قبل نعرمر.. الملك العقرب

التاريخ الرسمي المدون لمصر القديمة يبدأ حوالي عام 3,200 قبل الميلاد، عندما أسس الملك (نعرمر/ مينا) الأسرة الحاكمة الأولى، ووحد المملكتين تحت حكم واحد. لكن حلم الدولة في مصر القديمة بدأ قبل نعرمر.

قبل توحيد نعرمر، حاول ملك من الجنوب (الصعيد)، يحمل التاج الأبيض، توحيد البلاد قبل نعرمر، عُرف بـ “الملك العقرب”، واستطاع فعلًا تحقيق النصر على مملكة الشمال، لكنه لم يتمكن من حسم الانتصار النهائي.

من الواضح أن تلك المحاولة الأولى تعرضت للإجهاض، لكن حلم ضم المملكتين ظل مسيطرًا بقوة على ملوك الجنوب خاصة. 

الملك العقرب

الملك العقرب

اقتصاد الدولة الموحدة

تكررت محاولات توحيد مصر القديمة حتى اكتمل الحلم على يد الملك نعرمر، الذي وضع على رأسه تاجي الشمال والجنوب، تعبيرًا عن سلطانه على مصر القديمة الموحدة، وأطلق على التاج الموحد اسم “باسخمتي” أي “القويين”، والتي ترجمها الإغريق إلى “بشنت”. 

لوحة الملك نعرمر

لوحة الملك نعرمر

وليتجنب الملك نعرمر أخطاء محاولات توحيد مصر القديمة السابقة، أسس عاصمته الجديدة “مدينة منف” في موقع وسط بين الدلتا والصعيد لتصبح العاصمة الرسمية للحكم الملكي الجديد.

ومن بعد نعرمر، رأى الملوك الأوائل أن تأمين وحدة مصر القديمة السياسية لن يتحقق فقط بالقضاء على الصراعات المحلية، بل بتفعيل الاقتصاد المزدهر، كمفتاح سحري حقيقي لاستمرار الوحدة السياسية الوليدة.

لذلك، عمل حكام مصر القديمة على شق القنوات والترع، لتطبيق نظام مخطط وموجه للري؛ ضمانًا لأفضل مردود من غلة الأراضي، استنادًا إلى تنسيق شامل بين القرى.

بالتبعية، ازدهرت المحاصيل التقليدية كالقمح والشعير والكتان، وزادت أعداد بساتين أشجار السنط والجميز والنبق، بالإضافة للفول والعدس والخيار وغيرهم، وتوسعت زراعة الكروم، فظلت مصر القديمة مصدرًا للنبيذ حتى العصر الروماني.

نظام الري في مصر القديمة

نظام الري في مصر القديمة

تطوير الهيكل الإداري

ومنذ الأسرة الرابعة، ظهرت وظيفة الوزير.

وعمل الجهاز الإداري على تحديد مختلف متطلبات اقتصاد الزراعة، فضم عددًا من البيوت الملكية:

منها بيت الحقول ومهمته الإشراف على المحاصيل،

وبيت المياه الذي كان ينسق بين مختلف الملاحظات التي تسجلها مقاييس النيل في تنظيم عمليات تخطيط الري حتى يتجنب حدوث أي مجاعة.

وهناك “البيت الأبيض” المختص بالإدارة المالية،

وأخيرًا “البيت الأحمر” المشرف على الشعائر الدينية الملكية.

ويعين الملك في كل إقليم موظفًا في ما يشبه وظيفة المحافظ حاليًا، وكان تكليفه الأساسي مراقبة القنوات وصيانتها.

وفي كل إقليم هناك محكمة تُدعى “چاچات”، تعقد جلساتها في عاصمة الإقليم لإصدار أحكامها في المنازعات القانونية.

وكان “الكتبة” هم الأداة الحقيقية لذلك الهيكل الإدراي الضخم، فقد ازدهرت منهم طبقة ضخمة كانت تمثل الدم الذي يجري في عروق الجسم الإداري بأكمله، ولم ينظر إليهم بصفتهم مجرد موظفين بل مثقفين نابهين قدموا إسهاماتهم في مختلف شؤون الدولة والحياة، بدءًا من إحصاء قطعان الماشية في الأملاك، وصولًا للحصر الدقيق لعدد القتلى في المعارك.

ولما كانت مهنتهم لها شأنها المرموق في شتى المجالات، فقد خلدها طراز محدد من التماثيل، ومن أشهر نماذجه؛ تمثال الكاتب المصري بمتحف القاهرة، وتمثال كاي بمتحف اللوڤر.

الكتبة في مصر القديمة

الكتبة في مصر القديمة

اكتمال البناء

مع وصول الملك زوسر (يُعرف أيضًا بچسر)، وهو أول ملوك الأسرة الثالثة، كانت مصر القديمة قد تخلصت تمامًا من أصولها القديمة كأقاليم منفصلة، فصارت مملكة موحدة بشكل كامل.

وفي عهد هذا الملك، شهدت العمارة والفنون ثورة كبرى كان خير تمثيل لها “هرم زوسر” الذي تجسدت فيه عبقرية وزيره الأول «إم حوتپ».

لم يكن تقليد بناء الأهرامات الذي بدأ مع زوسر، مجرد إنجاز تقني فقط، فقد كانت هناك فلسفة دينية تعبر عنها تلك البنايات الضخمة بداية من هرم زوسر ووصولًا لأهرامات الجيزة الثلاث، وخاصة هرم خوفو،

فالهرم هو صورة أرضية متحجرة لحزمة من نور الشمس الهابطة من نقطة في أعالي السماء, هو تعبير عن رابط بين السماء والأرض، فكل تفصيلة داخل الأهرامات وتوزيع عناصره هي تعبير عن إحساس روحي عميق بالوحدة بين المجتمع الإنساني في مصر القديمة وبين العالم الإلهي في السماء.  

هرم زوسر

هرم زوسر


 

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك