بعد صراع عسكري بين الجيوش الإسلامية والبيزنطية، ظل الصحابي أبو عبيده بن الجراح سته أشهر كاملة محاصرًا لمدينة “إيلياء”، وهو الاسم الذي عرفه المسلمون عن بيت المقدس. حتى استسلم البطريريك صفرونيوس في أبريل 637 م ورضخ لدفع الجزية، وجاء عمر بن لخطاب لتسلم مفاتيح المدينة والتي اشترط طرد اليهود منها.
ولما كان عمر بن الخطاب يتفقد كنيسة القيامة وأراد أن يصلي، ابتعد عن الكنيسة رمية حجر وفرش عباءته وصلى، فجاء المسلمون من بعده وبنوا في ذلك المكان مسجدًا سمي “مسجد عمر”. لكنه لم يفكر هو أو جنوده وهم الموجودن داخل أسوار القدس في الصلاة داخل المسجد الأقصى!
لماذا؟
لأنه لم يكن هناك مسجد من الأساس!
لا يوجد مرجع تاريخي يذكر أن أيًا من الخلفاء الراشدين أو الصحابة الكرام قاموا بتفضيل مدينة “إيلياء” عن غيرها من المدن أو الصلاة ولو لمرة واحدة في المسجد الأقصى. وحتى اسم “بيت المقدس” لم يكن معروفًا وقتها إلا بين اليهود فقط. ولم يظهر في القاموس الإسلامي إلا في عهد المأمون.
لذلك، عندما أراد علي بن أبي طالب تغيير عاصمة الخلافة لأول مرة، اختار الكوفة ولم يفكر في القدس.
ثم انتقلت الخلافة إلى دمشق في عهد الأمويين، ثم نقلها العباسيون إلى بغداد. بينما كانت القاهرة عاصمة الفاطميين والسلاجقة والإخشيدين.
ما يثير انتباهنا هنا هو اختيار المسلمين بعد فتح فلسطين للمدينة الساحلية “قيسارية” كعاصمة، والتي انتقلت بعد ذلك إلى “الرملة”.
وحتى القبائل العربية التي توافدت بعد فتح فلسطين لم تختر القدس للسكن، فسكنت قبيلة غسان اليرموك، والأشعريون في طبريا ومدين في ما بين تبوك والعريش وبيت جبرين، وسكن أريحا جماعة من قبائل قيس وقريش، وسكن بنو بكر منطقة جنين وآخرون من مضر في نابلس.
الشيخ جراح | نزاع عقاري في القدس؟ أم نزاع دولي يصل إلى البيت الأبيض؟ | س/ج في دقائق
في كتاب المغازي، يقول الواقدي”فَلَمّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ إلَى الْمَدِينَةِ خَرَجَ مِنْ الْجِعِرّانَةِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لَيْلًا; فَأَحْرَمَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الّذِي تَحْتَ الْوَادِي بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى، وَكَانَ مُصَلّى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا كَانَ بِالْجِعِرّانَةِ، فَأَمّا هَذَا الْمَسْجِدُ الْأَدْنَى، فَبَنَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَاِتّخَذَ ذَلِكَ الْحَائِطَ عِنْدَهُ .
والجعرانة هي مكان بين مكّة والطائف، بينها وبين مكّة ثمانية عشر ميلًا على ما ذكره الباجي. وتقع شمال شرقي مكة المكرمة، في وادي العدوة القصوى التي لا يزال اسمها يستعمل حتى اليوم، ومنها أحرم النبي لعمرته الثالثة، وفيها مسجده الذي صلّى فيه وأحرم منه عند مرجعه من الطائف بعد فتح مكة.
وتعد الجعرانة – إلى الآن – مكانًا له قدسية خاصية في كتب التراث فيقول أبو الطيب الفاسي: “الإحرام من الحل الذي في جهة التنعيم للمقيم بمكة أفضل من الإحرام من الحل الذي في بقية جهات الحرم، ما خلا الجعرانة، فإن الإحرام منها أفضل عند مالك، والشافعي، وابن حنبل، وغيرهم”.
لذلك، فإن النبي حينما أخبرنا بأن “من أهلَّ بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة” إنما كان يشير إلي المسجد الأقصى الذي وراء الوادي بالعدوة القصوى؛ لأن المسجد الأقصى بالقدس لم يكن قد تم بناؤه من الأساس.
الإسراء والمعراج | خلافات المفسرين حول 6 تفاصيل أساسية في رحلة النبي محمد | عبد السميع جميل
في ظل الصراع المحموم علي الحكم، سيطر عبد الملك بن مروان علي الشام، في الوقت الذي سيطر فيه عبد الله بن الزبير على الحجاز، ليشهد العالم الإسلامي لأول مره وجود خليفتين في آن واحد ، وكان ابن الزبير يطلب البيعة من الحجاج القادمين إلى مكة، مما أثار حفيظة بن مروان، والذي فكر في وسيلة يمنع بها المسلمون الشوام من الحج إلى مكة.
في عام 72 هجرية، أمر ابن مروان عماله ببناء مسجد بديل يحج إليه المسلمون، وأصدر العلماء وقتها كـ “الزهري” الفتاوى الخاصة التي أعطت للمسجد قدسية تساوي بينه وبين الكعبة.
يقول ابن تغري في ذلك: “فبنى لهم القبة على الصخرة والجامع الأقصى ليصرفهم بذلك عن الحج والعمرة، فصاروا يطوفون حول الصخرة كما يطوفون حول الكعبة وينحرون يوم العيد ضحاياهم، وصار أخوه عبد العزيز بن مروان صاحب مصر يعرف بالناس بمصر ويقف بهم يوم عرفة”.
أما ابن تيمية فيقول في ذلك: “لما تولى عبد الملك الشام ووقع بينه وبين ابن الزبير الفتنة كان الناس يحجون فيجتمعون بابن الزبير، فأراد عبد الملك أن يصرف الناس عن ابن الزبير فبنى القبة على الصخرة وكساها في الشتاء والصيف ليرغب الناس في زيارة بيت المقدس ويشتغلوا بذلك عن اجتماعهم بابن الزبير”.
مظاهرات البراءة | بين الخميني والنبي محمد.. كيف تسللت السياسة إلى مواسم الحج ؟ | هاني عمارة
ويختلف بناء المسجد الأقصى الحالي عن بناء الأمويين اختلافًا كبيرًا. فقد بني المسجد بعد ذلك ورمم عدة مرات في أواخر الحكم الأموي بعد زلزال سقط بسببه شرقي المسجد وغربيه. ثم أعاد بناءه الخليفة العباسي المنصور سنة 741هـ إلا أنه تهدم تمامًا بعد عشر سنوات فقط، فأمر الخليفة المهدي بإعادة بنائه.
ثم دمر المسجد الأقصى مجددًا، فعمره الخليفة الفاطمي الظاهر وضيقه من الغرب والشرق بحذف أربعة أروقة من كل جانب، إلى أن وضع الأيوبيون اللمسات الأخيره لما هو عليه الآن.
لذلك، فقد اتفقت روايات على أن المسجد الأقصى لم يكون موجودًا قبل زمان عبد الملك. وفي لغة العرب، حينما يسمون مسجدهم بالأقصى، فإنما هو تمييز لوجود مسجد أدنى، وهو ما ينطبق على “مسجد الجعرانه” في السعودية. أما مسجد بن مروان في فلسطين فإنما سمي بذلك تيمنا بآية الإسراء، وكمحاولة لإضفاء قدسية على المسجد الجديد.
ومن هنا بدأ النزاع على قدسية إيلياء أو بيت المقدس.
القدس والمسجد الأقصى بين التدوين الشيعي والدعاية السياسية | هاني عمارة