Post image. ..

سوريا: طبيب سعودي وروشتة لبنانية | خالد البري | دقائق

اكتسب الملك ميداس قدرة سحرية على تحويل كل شيء يلمسه إلى ذهب. أسعدته هذه القدرة، لكنها سرعان ما تحولت إلى لعنة، حين لمس ابنته فتحولت إلى تمثال من الذهب، لا حياة فيه.

 بعد خمسة عشر عاماً من الحرب الأهلية اللبنانية، ظهر العماد ميشيل عون كقائد يتجاوز الميليشيات، يحمل صفة رسمية تمنحه قدرا لا يُنكر من الشرعية. رأى فيه كثيرون الأمل في بناء دولة تُدار وفق المبادئ المثالية: لا سلاح إلا المركزي، لا قوة إلا للجيش. جمل منضبطة، تشبه إجابة نموذجية في امتحان العلوم السياسية.أو تشبه لمسة سحرية. لكنها ليست كذلك في عالم السياسة.

التخلص من الذهب

باشر العماد بوصفه قائدا للجيش اللبناني الشرعي خطته وشن حرب التحرير والإلغاء. لكن من حسن حظ لبنان أن البراجماتية انتصرت على “المثالية”، وأن الفرقاء اللبنانيين، باستثناء العماد نفسه، توصلوا بوساطة سعودية إلى اتفاق “الطائف” الذي أنهى الحرب. الاتفاق لم يكن خالياً من العيوب، لم يكن مثالياً، لكنه كان الأفضل لأنه أنقذ الممكن. والدليل أنه، على ما فيه، لا يزال مستمراً منذ 35 عاماً.

الآن نذهب على عجل إلى سوريا. ففي طبيعة اللحظة السورية وتعقيداتها، من الأنسب ألا نضيع نحن، ولا أي من الأطراف المعنية، الوقت.

على السطح يبدو أن الوضع السوري مختلف كليا عن الوضع اللبناني في نهاية الحرب الأهلية، حيث انتصرت هيئة تحرير الشام على النظام السابق، وتولى الرئيس المؤقت أحمد الشرع بالفعل الحكومة المركزية، ونال اعترافاً دولياً واسعاً.

لكن هذا التشخيص منقوص.

بعد 14 عاماً من الحرب الأهلية في سوريا، لم يعد نظام بشار الأسد اللاعب الوحيد على الساحة. طورت مكونات سوريا الأخرى وسائلها الدفاعية الخاصة، وخاضت أيضاً معاركها الحمائية الخاصة. بعضها كان بالغ التأثير في النتيجة النهائية لما حدث في ديسمبر 2024. قوات قسد، مثلا، أدت دوراً محورياً في هزيمة داعش، ولا تزال القوة المؤتمنة دولياً على كبح مقاتلي التنظيم. هذه القوة الكردية لديها مخاوف مشروعة من التأثير التركي على الحكم الجديد.

صحيح أن تلك الفصائل لم تذهب إلى دمشق، ولا دخلت قصر الشعب. لكن السبب في ذلك أنه لم يكن من أهدافها. كان هدفها خلق نوع من الحماية الذاتية، وأنجزته. وليس من المتوقع أن تتخلى عن هدفها لمجرد أن هيئة تحرير الشام حققت هدفها. لا أقول إنها ستعمل ضده، بل أقول إن السياسة تعبر هنا عن نفسها.

نأسف للإزعاج


وهناك عدة اعتبارات ربما تزعج مؤيدي الرئيس أحمد الشرع، لكن لا يمكن أبداً تجاوزها إن أردنا نقاشا حقيقيا عن حكم مستقر ذي قدرة على البقاء:
1- هيئة تحرير الشام فصيل سوري لا يشمل كل الطوائف والمكونات، وقد حلت نفسها لصالح الحكومة المركزية الجديدة التي شكلها قادتها. أما بقية المكونات فليست جزءاً فاعلاً في هذا الكيان الجديد.
2- الدعاية المصاحبة للتغيير صورت الحكم السوري الجديد وكأنه حكم سني أموي. وهذا أقلق المكونات الأخرى.
3- صحيح أن العرب السنة يمثلون الأكثرية في سوريا، لكن هذا لا يعني أن جماعة سياسية إسلامية سنية تمثلهم تلقائياً. المجتمع السني نفسه متنوع.
4- الرئيس أحمد الشرع في مرحلة انتقالية، لم يحصل بعد على شرعية انتخابية من الشعب السوري.
5- سلوك “العناصر غير المنضبطة” في القوات الرسمية لا يزال حاضراً، باعتراف الحكومة المركزية. ما حدث من وقائع خارج الإطار القانوني في الساحل، ولم يُعاقب مرتكبوها، ثم في السويداء، يعمق مخاوف المكونات السورية والمراقبين الدوليين.

قد يرى البعض في هذا الطرح مساساً أو تعريضا بشرعية الوضع القائم، لكنه في جوهره محاولة لتفادي أخطاء سابقة، والبناء للمستقبل على أسس واقعية.

كونسولتو 1: نيكولو مكيافيللي



الآن نعود إلى لبنان. وحتى لا أكرر ما قلته سابقاً، أستعير مقولة نيكولو مكيافيللي: “السياسة لا تهتم بما يجب أن يكون، بل بما يمكن أن يكون.”

 سوريا لا تحتاج إلى حل ألماسي أو ذهبي، بل إلى حل عملي. والحل العملي بالنظر إلى ما طُرح سابقاً، هو طائف جديد، برعاية سعودية، أو من تفوضه من القوى الإقليمية. وكما في الأمور جميعا، الحل مرتبط بتوقيته، وفي الحالة السورية التوقيت المناسب هو أمس، أو اليوم في الأجل النهائي، قبل أن تنقسم ولاءات السوريين ومشاعرهم إزاء القوى التي يمكن أن تساعد، وأن يُحسب أي منها على طرف دون آخر، وتتحول سوريا إلى ملعب تتنافس فيه القوى المحيطة، كما حدث في لبنان من قبل.

هذا الطائف المزمع لا يختلف في مرماه عن قاعدة “السلطة المركزية صاحبة الحق الوحيد في احتكار السلاح”، لكنه يصل إليه بقواعد ومهارات وتاكتيك لعبة السياسة.

الطائف اللبناني اعتمد على مسارين غرضهما الأساسي بناء الثقة:
1- وضع جدول زمني لإنهاء حالة التسلح الميليشياوي خارج نطاق الدولة اللبنانية. (استُثني وقتها حزب الله بسبب الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان.)
2- طرح سياسي اتفق عليه الموقعون، يشمل دوراً سياسياً واضحاً لكل مكون من المكونات اللبنانية في هيكل الحكم.

اتفاق الطائف تعرض ويتعرض لكثير من الانتقادات المحقة. لكن حالة السلم الأهلي البارد التي حققها كانت أفضل من حالة الحرب الأهلية السابقة. حتى العيب الأكبر الناتج عن احتفاظ حزب الله بسلاحه منفردا دون الآخرين، وبالتالي تغوله على الدولة بعد تحرير الجنوب، ينبغي أن يدفعنا إلى الاستفادة منه. فلا نجرد فئة من سلاحها قبل أن يتجرد الجميع، بالتزامن. ولا سيما الفئات ذات الأيديولوجيا التسلطية.

كونسلتو 2: هنري كيسنجر

 

ربما تحمل الواحد فينا الأهواء إلى السعي إلى انتصار تام لفريق يؤيده. ربما ينشغل بجمع الحجج على أهمية ذلك. لكن الواقع يقول إن وضعاً كهذا لن يدوم سياسياً.

تستحق كلمات هنري كيسنجر، الرجل الذي خبر دهاليز السياسة أكثر من غيره في الذاكرة المعاصرة، أن ينظر إليها بعناية: “يكون الاتفاق في صورته الأكمل حين يشعر كل الأطراف بقدر متساوٍ من عدم الرضا.” لا نسعى في المفاوضات السياسية إلى إرضاء جميع الأطراف، بل نسعى إلى منع الأسوأ.

لا ينتقص من الحكومة السورية الحالية أن تبادر هي إلى تقديم تطمينات للمكونات السورية. أعتقد اعتقاداً عميقاً أن هذا أفضل لها على الأبعاد المختلفة للمدى. طمأنة وتهدئة وشمول لبقية المكونات، هذه فائدة. ولكن أيضاً رسالة إلى العناصر غير المنضبطة بأن الطريق إلى دفع البلاد إلى حالة أكثر تشدداً لا يمر بالحكومة المركزية وحدها. هذا توازن ردع محمود في فترة ترسيخ الأقدام.

صدمة الطبيب

 
وهنا أتفهم طبعاً تخوفات القوى الإقليمية التي عانت من السلوك الإيراني التوسعي خلال العقود السابقة، ومن ثم رأت في انكساره في سوريا فرصة ذهبية. لا شك في ذلك. ولا ينبغي أبداً السماح بأن تسقط سوريا في الفخ الإيراني مجدداً.


لكن الفخ الإيراني لا يقتصر على السيطرة على سوريا كما كان الوضع أيام بشار الأسد، هذا هدف بعيد وإيران أوهن حاليا من السعي إليه. ربما يكون الهدف الأكثر واقعية أن تسقط سوريا في اضطراب يمكن إيران من تنفيذ أهداف مرحلية . فذلك يهيئ الظروف للانفلات ويخلق سياقا مناسبا لتهريب الأسلحة والبشر وإشعال الوضع. وهو وضع يشبه ما حدث في العراق بعد الغزو الأمريكي.


من وجهة نظري، فإن مسارعة سوريا إلى الشمول والاحتواء وجدولة الاتفاقات ضمانة أولى ضد هذا الاحتمال.

في الطائف الجديد نتفهم أيضاً ظروفاً نفسية سياسية مختلفة. قبل 35 عاماً لم تكن النوايا الإيرانية حاضرة في المشهد كما اليوم. لم يتوقع أحد أن يتحول السلاح المستثنى في لبنان إلى سلاح سياسي طائفي، ولا أن تتحول الطائفية السياسية إلى لاعب أساسي في بناء المحاور. أو ربما لم يُتوقع المدى الذي يمكن أن تصل إليه.

من هنا، لا يمكن لوم القوى الإقليمية في إصرارها على تثبيت الحكم الحالي في سوريا فوق جميع الأهداف، رغم المؤشرات التي توحي بوجود قلق. والمنطلق في هذا المقال هو تحقيق ذلك الهدف لا التخلي عنه، بالنظر إلى المصلحة السياسية.

كونسلتو 3:  كاڤور


وسعيا إلى تحقيق هذا المستهدف، بإمكاننا تقسيمه تنفيذيا إلى خطين أساسيين:


الأول: خط أحمر، وهو استمرار وجود أحمد الشرع في موقعه،
١- هو الوجه الذي يستطيع ضبط الأمور داخلياً بسبب موقعه من الجماعات التي أسقطت الأسد.
٢- بسبب تاريخه السابق، في عين القوى الخارجية، يحتاج إلى الدعم ولا يستطيع الاستغناء عنه.

الثاني: خط دقيق يحتاج إلى ميزان حساس، وهو كيفية دعم هذا الحكم.

تقود السعودية دعماً اقتصادياً ضخماً. وهذه نقطة إيجابية. هذا النوع من الدعم يمنح الأمل، ويجذب الأطراف المختلفة، ويجعل الدعم موجهاً للشعب السوري وليس منحازاً لطرف على حساب آخر. كل هذه نقاط تجعله مختلفاً عن الدعم العسكري.

أما من ناحية الدعم الإعلامي، فربما يحتاج الحكم في سوريا إلى الشعور بأنه لا يملك شيكاً على بياض، وأن سلوك “العناصر غير المنضبطة” مضر. من فوائد الدعم الإعلامي المشروط تجنب تنفير المكونات الأخرى. وهذا عامل قوي في تحقيق الاستقرار، وفي نيل الثقة.

يلتقي الخطان في عملية سياسية تعتمد بالضبط ما اعتمده الطائف:

1- جدول زمني للتخلي عن السلاح، له أفق زمني ممكن، ومترابط مع التغيرات السياسية وترسيخ شرعية النظام السياسي.
2- شمول سياسي، تضمن به المكونات دورها ووجودها في صنع القرار.

ليس المطلوب من سوريا أن تنجز اتفاقاً مثالياً. بل أن تصل إلى اتفاق واقعي قابل للحياة. كونت كاڤور، العقل المدبر وراء توحيد إيطاليا، قال في أوج الصراع الصعب لإنجاز غرضه إن: “الثورات العظيمة لا تنتصر، بل تنتج نظامًا قابلا للحياة.” لعل هذا ما يجب أن نسعى إليه الآن


اخترنا لك

البحث في الأقسام