أول أصنام العقل البشري عند بيكون مرتبط بطبيعة تكوين الإنسان نفسه، لذلك نجدها في كل أفراد النوع الإنساني.
لدى كل البشر ميل إلى إسقاط حالتهم على مجمل العالم؛ فإذا اعتقد الإنسان في صحة أمر ما، يحاول إجبار كل "ما" في العالم لتأييد وإثبات رأيه.
هذا ينعكس حتى على نظرتنا للطبيعة: الكلاب والقطط حزينة لأننا نشعر بالحزن. نرى وجوهًا بشرية في سحب السماء، ونربط بين تقلب الطقس وبين مشاعر الغضب الإنسانية، بل نسقط حتى مشاعرنا على الألوان فنرى فيها السعادة أو الحزن.
باختصار، أحكامنا العقلية مشوهة بسبب ارتباطها بالعاطفة والميول الشخصية.
ثقافتنا وتربيتنا وتعليمنا تحدد طريقة اختبارنا كبشر للواقع.
وعكس أوهام القبيلة التي ترتبط بالبشر في العموم، فأصنام الكهف مرتبطة بكل فرد في خصوصيته فقط: الفرد في تكوينه أشبه بالكهف، ومن خلال هذا الكهف الشخصي ينظر للعالم.
أوهام الكهف صادرة عن التربية والعلاقات الإجتماعية والثقافة التي يتعلمها الفرد، فنحن نرى العالم من خلال ثقافتنا الشخصية: بعض الكتب التي قرأناها، أو فيلم شاهدناه، أو قصة رُويت لنا، أو سلطة معينة نثق فيها.
لو انغمست في فكر ما "كارل ماركس مثلًا" فسترى العالم كما يراه هو كل شيء كما يراه.
وعندما نرى العالم فقط من منظورنا، فإننا غالبًا ما نفترض أن تجاربنا هي الخيار الافتراضي والمثالي لأي شخص طبيعي آخر.
كل تلك الأشياء بمثابة كهف ننظر منه إلى العالم، فنرى بعض البشر لديهم ميل طبيعي للتشاؤم نتيجة لتلك المؤثرات، والبعض الآخر يميل للتفاؤل، هناك من يميل للمحافظة والاستقرار، وهناك المتمرد المعترض دائمًا، وكل تلك الميول المسبقة تحكم نظرتنا للعالم وغالبًا ما تشوه حقيقته.
يظن غالبية الناس أن العقل يحكم اللغة، وأن اللغة مجرد وسيلة يطوعها العقل لنقل أفكاره. لكن ثالث أصنام العقل عند بيكون يفترض العكس: العلاقة بين العقل واللغة متبادلة. واللغة أيضًا تؤثر على أفكارنا وفهمنا للأشياء.
استعمالنا للغة والكلمات ينتج صنمًا هي نتيجة لاجتماع الناس وتحاورهم كما يحدث في السوق مثلًا.. ومن هنا جاء اسم "صنم السوق:
أحد أفضل الأمثلة هو كيفية تأطير وسائل الإعلام لرواية معينة. فكر مثلًا في في استخدام توصيفات "مقاوم - مجاهد - مناضل من أجل الحرية" مقابل "إرهابي".
مجرد تغيير الوصف ساهم في تغيير نظرتك للفاعل إلى النقيض.. وعندما يشيع استخدام اللفظ في التواصل بين أفراد المجتمع، تتغير الصورة تدريجيًا.
ولأن السياسيين ورجال الميديا خبراء في استخدام البلاغة لإقناع أو استنباط رد فعل معين، نكون جميعًا عرضة للحجج المؤطرة جيدًا والخطاب المصمم بذكاء. الذي يجيد استخدام ألفاظ اللغة لفرض فهم ما وإبطال آخر.
لكن هذا الصنم يسلط الضوء أيضًا على مدى عدم ملاءمة الكلمات التي لا يفهمها المصدر والمتلقي بنفس المعنى. مصطلح "تعديل جيني" مثلًا يعني شيئًا مختلفًا للعلماء عما يعنيه للشخص العادي.
المثقفون والمتعلمون ليسوا استثناء في مسألة أصنام العقل عند بيكون.. لديهم صنمهم الخاص.
صنم المسرح ناتج عن التسليم بفرضيات مفكر ما أو فلسفة مشهود لها في عصر معين، فمقام ونفوذ فكرة معينة أو فيلسوف كبير قد تحكم نظرتنا للعالم بشكل مسبق ودون مراجعة منا.
فهي تشبه الروايات المسرحية التي نعجب لجمال عرضها وإحكام سردها دون أن نراجع افتراضاتها الأساسية.
وعلى الرغم أن كل قضية هي عرضة للسؤال والخطأ، نسلم بها لأنها صادرة من سلطة مفكر ما أو رجل دين أو سياسي شهير.
يشمل ذلك "الأفكار الرائجة حاليًا" مثل المعتقدات الدينية أو الأجندات الاجتماعية أو الحركات السياسية أو "روح العصر".
كمثال حي: فكر مثلًا في النظر إلى العالم من زاوية تغيير المناخ، حين تصبح كل تفاصيل إدارة العالم مرتبطة به.
بالتالي يسهل تجاهل الحقائق مهما كانت واضحة لصالح "المسرحية" التي تتحول إلى قالب للكون.
فرانسيس بيكون والعوائق الأربعة للحقيقة (Big Think)