القصة في دقيقة:
في عالم ارتفعت فيه مستويات المعيشة بشكل كبير في الدول المتقدمة، الرأسمالية، لا يزال منتقدوها ينسبون كل أزمة اجتماعية إليها.
بابا الفاتيكان يعتبر أن “الأرض نفسها تجد الرأسمالية نظامًا غير محتمل”.
بينما حملها شيخ الأزهر “كل مشاكل العالم”، متوعدًا الدول الرأسمالية بعقوبة الدنيا “سقوط الحضارات” قبل عقوبة الآخرة!
لكن السؤال الذي يتجاهله البابا وشيخ الأزهر والتقدميون: هل المشكلات المزعجة نتيجة ما يعتبرونه “جموح الرأسمالية” أم تحجيم الرأسمالية عن فعل كل ما كان متوقعًا منها؟
س/ج في دقائق
ماذا لدينا من تصريحات عن الرأسمالية مؤخرا؟
في نهج انضم إليه البابا فرانسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيب، يفضل “التقدميون” إلقاء اللوم على الرأسمالية باعتبارها سبب الفقر وعدم المساواة والبطالة وحتى الاحتباس الحراري.
شيخ الأزهر أحمد الطيب قال إن من عيوب الرأسمالية التي تحكم العالم الآن، تطبيق مبدأ الحرية للإنسان في ما يملك ويصرف ويعتقد وأن يقول ما يشاء؛ حيث سببت للعالم مشاكل كبرى، متوعدًا الدول الرأسمالية بـ “عقوبات في الدنيا وهي سقوط الحضارات”.
بابا الفاتيكان فرانسيس بدوره قال عن الرأسمالية خلال خطاب في بوليفيا: “هذا النظام الآن غير محتمل، الفلاحون يجدونه غير محتمل، العمال يجدونه غير محتمل. المجتمعات تجده غير محتمل، والشعوب تجده غير محتمل، الأرض نفسها تجده غير محتمل”!
فهل مشكلة الفقر نتيجة “جموح الرأسمالية”؟
بوليفيا مثلًا نكبها الفقر فعلًا. وفرانسيس ألقى باللوم على “عقلية الربح بأي ثمن، مع عدم الاهتمام بالإقصاء الاجتماعي أو تدمير الطبيعة، والثقة الفجة والساذجة في صلاح أولئك الذين يمارسون القوة الاقتصادية وفي طريقة عمل النظام الاقتصادي السائد”.
مشكلة الفرضية الأكبر أن الشركات الأكثر ربحًا عالميًا لا تستغل بوليفيا؛ ببساطة لأنهم لا يعملون هناك، لأنهم يجدون المكان غير مربح.
أزمة بوليفيا | هل سقطت النزعة اليسارية في أمريكا اللاتينية؟ | س/ج في دقائق
أين مشكلة الرأسمالية مع الفقر إذن؟
المشكلة الأساسية أن الرأسمالية لم تنخرط في تنظيم الإنتاج والتوظيف في أفقر البلدان والمناطق.
لكن عالمي الاقتصاد رافائيل دي تيلا وروبرت ماك كولوتش يقدمان تفسيرًا:
يقولان إن أفقر دول العالم لا تتسم بالثقة الساذجة في الرأسمالية، كما افترض بابا الفاتيكات، بل بـ “الريبة المطلقة” بما يؤدي إلى تدخل حكومي كبير في تنظيم الأعمال.
وفي ظل هذه الظروف، لا تزدهر الرأسمالية وتظل الاقتصادات فقيرة.
هنا، قد يكون بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر وغيرهما محقين في تركيز الانتباه على محنة فقراء العالم. لكنهم يتجاهلون احتمال أن تصريحاتهم هذه هي التي تدفع الدول بعيدا عن النظام الاقتصادي الأنجح. وبالتالي أن بؤس الدول المشار إليها ليس نتيجة “جموح الرأسمالية” بل نتيجة غياب الرأسمالية.
مستقبل الرأسمالية | رأسمالية الصين في مواجهة الليبرالية.. أيهما يزيح الآخر؟ | س/ج في دقائق
هل هناك دلائل على نجاح الرأسمالية في مكافحة الفقر؟
بشكل أساسي، كانت الرأسمالية النظام الاقتصادي الأكثر نجاحًا على الإطلاق في مكافحة الفقر.. كيف؟ بدلًا من تدخل الدولة، تخلق الرأسمالية دائرة خلق الوظائف.
توفير الوظائف مع خطة توفير دقيقة يعني أن العامل سيتشري منزله الخاص، ثم يتوسع لبدأ عمله الخاص، فيخلق وظائف جديدة من ناحية، ويدخر من أجل معاشه التقاعدي، ويتمتع بمستويات غير مسبوقة من أوقات الفراغ.
من هنا، خلقت الرأسمالية وظائف أكثر مما فقده المجتمع نتيجة التحديث في الـ 144 عامًا الماضية.
والأهم، أن العمل أصبح أكثر إرضاءً بعد أتمتة الوظائف المملة بفعل التكنولوجيا التي طورتها الرأسمالية، بينما ركزت على زيادة المهن الإبداعية.
بهذه الطريقة، فكل التقدم المذهل في الطب والمحاسبة والخدمات المهنية حدث في ظل الرأسمالية. وانخفاض أسعار منتجات التكنولوجيا الأساسية منها والأكثر تطورًا حدث بفضل الرأسمالية.
جهاز التليفزيون الذي أطل منه شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان لم يكن ليوصلهما إلى متابعيهما لولا أن الرأسمالية خفضت سعره بنسبة 98% منذ 1950 وحتى الآن.
لكن الرأسمالية لا توفر الرعاية الصحية المناسبة.. أليس كذلك؟
لا ليس صحيحًا. ربما الكم المنفق حكوميا أقل، لكن الإنفاق المجتمعي أعلى، و جودة الخدمة ونتيجتها أفضل. كمثال، لنقارن بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي:
في 1986، كان سكان الاتحاد السوفيتي أكثر عددا بنسبة 14% من الولايات المتحدة. مستشفيات الاتحاد السوفييتي كانت أعلى بنسبة 73% من الولايات المتحدة. عدد الأسرة كان أعلى بـ 69%، والأطباء بـ 48%، والقابلات بـ 99%.
مع ذلك، كان متوسط العمر المتوقع في الاتحاد السوفييتي 64 عامًا للذكور و73 للإناث، مقابل 71 عامًا للذكور و78 للإناث في الولايات المتحدة.
السبب: الإنفاق على الرعاية الصحية تفوق في الولايات المتحدة على الاتحاد السوفييتي بفارق 184 مليار دولار في 1979 (645 مليار دولار بأموال اليوم).
دفعت الحكومة الأمريكية أقل من نصف هذا المبلغ مقارنة بحصة الاتحاد السوفيتي البالغة 92%، حيث مكنت الرأسمالية الولايات المتحدة من تعبئة مواردها وتخصيصها بكفاءة.
نصعد مع الرأسمالية “ونحن قلقون”. نغرق مع الاشتراكية “ونحن مطمئنون” | س/ج في دقائق
حسنًا: لم تسبب الرأسمالية الفقر.. لكنها لم تسع للقضاء عليه؟
بالعكس. لعبت التجارة العالمية دورًا حاسمًا في تعزيز النمو الاقتصادي والحد من الفقر المدقع في جميع أنحاء العالم.
مثلًا، فحص أندرياس بيرغ وتريز نيلسون بيانات من 114 دولة بين 1983 و2007، خلص من خلالها أن العلاقة بين الفقر والعولمة التجارية سلبية بنسب مهمة؛ حيث يرتبط انخفاض القيود التجارية وزيادة تدفق المعلومات على وجه الخصوص بانخفاض مستويات الفقر.
استخدمت دراسة أخرى في 2010 بيانات من 131 دولة متقدمة ونامية، ووجدت أن التخفيضات في الحماية التجارية أدت إلى مستويات أعلى من دخل الفرد.
ووجدت دراسة للبنك الدولي أنه بين عامي 1950 و 1998، شهدت البلدان التي حررت أنظمتها التجارية معدل نمو سنويا متوسطه أعلى بنحو 1.5 نقطة مئوية عما كان عليه قبل التحرير.
وارتفعت معدلات الاستثمار بعد التحرر الاقتصادي من 1.5 إلى 2.0 نقطة مئوية، مما يؤكد أن التحرير يعزز النمو جزئيًا من خلال تأثيره على تراكم رأس المال، وبالتالي فإن الإصلاحات المتمحورة حول التجارة لها آثار كبيرة على النمو الاقتصادي داخل البلدان.
لماذا الرأسمالية ”عندها دين“ و الشيوعية ”ملحدة“؟ | خالد البري
لكن الناس العاديين لا يشعرون بتلك الأرقام؟
الأرقام لا توافق على هذه الفرضية. وفق مؤشر الحرية الاقتصادية 2018، كان “الهروب الكبير” من الفقر لمئات الملايين حول العالم مرتبط بتزايد الحرية الاقتصادية عبر تعزيز الرأسمالية.
المؤشر، الذي طورته مؤسسة هيريتيج بعد تحليل السياسات الاقتصادية في أكثر من 180 دولة على مدى عقدين، أظهر أن السنوات العشرين الماضية كانت الأكثر ازدهارًا في تاريخ البشرية؛ بعدما وجدت دول حلولًا لمشكلات التنمية قائمة على الرأسمالية والسوق الحر، و الاقتصاد المنفتح على التدفق الحر للسلع والخدمات ورؤوس الأموال، بما غذى نموًا اقتصاديًا غير مسبوق حول العالم.
وعلى مدار عمر المؤشر، تحرك الاقتصاد العالمي نحو حرية اقتصادية أكبر، فتضاعف الناتج المحلي الإجمالي العالمي تقريبًا. هذا التقدم الذي خلقته الرأسمالية انتشل مئات الملايين من الناس من براثن الفقر وخفّض معدل الفقر العالمي بمقدار الثلثين.
هل أثبت كورونا فشل الرأسمالية؟ هل الاشتراكية هي الحل؟ | مناظرات دقائق
هل هناك مصادر أخرى لزيادة المعرفة؟