حكمت محكمة أمن الدولة طوارئ على المستشار “أحمد عبده ماهر” بالحبس 5 سنوات بتهمة ازدراء الأديان، بعد بلاغ من المحامي سمير صبري يتهمه فيه بـ “الحرب على الإسلام، وتشكيك المسلمين في دينهم، وعقد مؤتمر لتغيير ثوابت الدين، ومطالبة الأزهر بالاعتذار عن الفتوحات الإسلامية، وإنكار عذاب القبر، وأنه ليس في الإسلام فتوحات، بل احتلال لسبي النساء وليس لنشر الإسلام”.
الحكم يستحق أن نتوقف معه كثيرًا، لما أثاره من نقاشات واسعة حول صيغة الاتهام والقانون المستند عليه وشخص المتهم وحتى مبدأ ازدراء الأديان نفسه، وقضية تجديد الخطاب الديني ذاتها.
هل هي محاكمة تفتيش جديدة؟
صيغة البلاغ تؤكد أنها محاكمة تفتيش بالفعل، فمقدم الدعوى يقول نصًا: “من الشخصيات التى لا بد من كشف حقيقتها وإظهار حقدها على السنة خصوصا والإسلام عموما هو المدعو أحمد عبده ماهر، لن يمل المجرمون من ابتداع مختلف الطرق للحرب على الإسلام وتشكيك المسلمين في دينهم ومن طرقهم الخبيثة تلك الثلة العفنة التي تلبس رداء الإسلام تزعم محبته وتجميله في عيون أعدائه”!.
هكذا ببساطة سمح الرجل لنفسه أن يفتش في صدر المتهم ويحاكم إيمانه وإسلامه ويحكم عليه بادعاء الإسلام للحرب على الإسلام! .. المؤسف أن محكمة أمن دولة طورائ أخذت هذا الكلام على محمل الجد بدلًا من محاسبة صاحبه الذي لم يقع عليه ضرر مباشر من المتهم ولا حتى يملك صفة من الأصل لتقديم الدعوى، غير ادعاءاته القائمة على التكفير والتفتيش في الصدور!.
الجدير بالذكر أن أحكام تلك المحكمة بالتحديد غير قابلة للطعن فيها، وحكمها هذا بالتحديد يعد نافذًا رغم إلغاء حالة الطورائ، كون القضية تم إحالتها قبل إلغاء الطواري، و”المحكمة مختصة بنظر ما بحوزتها من قضايا حتى الفصل فيها” وفقًا للمادة 162 لسنة 1958 من قانون الطوارئ، بينما القضايا التي تتم إحالتها بعد إلغاء الطورائ “تحال إلى المحاكم العادية”، إلا إذا تدخل الرئيس الذي يحق له كافة السلطات “بالنسبة للأحكام التي تكون قد صدرت من محاكم أمن الدولة قبل إلغاء حالة الطوارئ”.
المتهم خرج عن صحيح “التجديد الديني”!
القضايا المشار إليها في اتهام ماهر، هي بالفعل محل جدل واسع بين الباحثين وداخل أروقة المؤسسات الدينية وفي قلب كتب التراث الديني منذ قرون، بداية من مسألة عذاب القبر، وحجية الأحاديث، مرورا بالغزوات والفتوحات، وصولًا لكل ما يتعلق بفقه الجهاد والسبي وملك اليمين والجزية والحدود، وهي كلها مسائل شديدة الأهمية والخطورة في واقعنا المعاصر، تقام دول وتقعد بسببها، وتدور أغلب الصراعات السياسية والاقتصادية في منطقتنا حولها، ومن ثم مواجهتها فكريًا ليست ترفًا.
تجاهل كل ذلك وتسليط الضوء فقط على هجومه الدائم على أمور فقهية نادرة وغير مؤثرة مثل رضاع الكبير وأكل لحم الأسير، لتقديم الرجل في صورة كرتونية بعيدة عن أصل وجذر المشاكل الأساسية الخاصة بتجديد الفكر الديني، هو في الحقيقة اختزال عجيب.
حتى انشغال الرجل بتلك المسائل “التافهة” دفع الأزهر إلى حذفها من المناهج لخطورتهم الرمزية في كشف المنظومة الفكرية القائمة عليها.
لكن الأعجب من ذلك هو التعامل مع رفض الرجل للفقه والأحاديث والتاريخ الديني، ووصفه لكل ذلك بالضلال والفساد الذي يستحق منه الهجوم والسخرية والتندر بسبب مخالفة القرآن – فالرجعيون يعتبرون ذلك خروجًا عن صحيح الدين، وبعض “المستنيرين” أيضًا يعتبرونه خروجًا عن صحيح التنوير!.
المؤسف أن ينزلق دعاة الاستنارة إلى نفس منزلق التيارات الرجعية، ويتعاملون مع الأصوات المخالفة لمنهجهم وقناعتهم باعتبارها أصواتا خارجة عن صحيح التنوير!، وكأن التنوير قاصر على منهج واحد بعينه!، بينما التنوير يقوم من الأساس على القبول بالتنوع والتعدد في الأفكار والآراء وطرق التفكير،
وإذا كنا نختلف مع الرجل – وأنا بالفعل أختلف معه في مواقفه السياسية ومنهجيته الفكرية – فهذا لا يعني على الإطلاق سحب صفة التنوير – التجديد الديني – منه، أو إخراجه من زمرة الاستنارة، حتى إن كان يرى أنه الوحيد الذي يملك الصواب والحقيقة المطلقة، وحتى إن كانت منهجيته نصية لا عقلية، وحتى إن كان يقدم خطابا شعبويا قائما على السخرية والتندر من التراث بألفاظ لاذعة، وحتى إن كانت أفكاره منقولة من غيره، وحتى لو كان لا يملك منهجية فكرية أو تصورا متماسكا للتجديد الديني،
فطالما لا يحرّض على عنف أو يدعو إلى كراهية أو يفرض أفكاره على أحد بالقوة، فالتنوير يسع الجميع طالما التزموا باحترام حقوق وحريات الآخرين.
هل يتساوي أحمد عبده ماهر مع التكفيريين في الهجوم على المعتقدات؟
يحاول البعض تقديم ما فعله أحمد عبده ماهر في كفة متساوية مع ما يفعله المتطرفون من هجوم على الأديان الأخرى، وكأن الهجوم على الأفكار والمعتقدات جريمة أصلا؟!
يفترض أن هؤلاء من أنصار الحريات، ومع ذلك يخلطون بين الهجوم على المعتقدات وبين الهجوم على حقوق وحريات الناس الشخصية، فيساوي أغلبهم بين شخص يهاجم أحاديث وأمورا فقهية وتاريخية تدعو للتطرف، وبين شخص آخر يهاجم المسيحية ويحرض على المسيحيين مثل أحمد سبيع وأبو إسلام الذي دعا للتبول على الإنجيل، وحُكم عليه بالسجن لأنه وفقا لنص الحكم الصادر ضده “وجه دعوات تحريضية ضد الطوائف المنتمية للديانة المسيحية، وزعم أن الإسلام يستوجب سب المسيحيين والاعتداء عليهم”!.
من ثمَّ هناك فارق كبير وضخم بين حرية نقد الأفكار، وبين انتهاك الحقوق والحريات الشخصية لأصحاب هذه الأفكار،
فمن حقك تماما انتقاد أفكاري ومعتقداتي التي تراها سخيفة وغير منطقية في تقديس شبشب الحمام مثلا أو عبادة رجل التمساح مثلا .. كل هذا من حقا تماما،
ولكن ليس من حقك إطلاقا انتهاك حقوقي وحرياتي في الاعتقاد أو التعبير أو العمل أو الحياة.. هذه بديهات من المؤسف أنها غائبة عن دعاة الاستنارة الذين يتصورون أن المطالبة بالحرية لماهر دون سبيع وأبو إسلام يعد نوعا من التناقض!.
اختراق سلفي لمؤسسات الدولة أم فلسفة دولة لمنع التشاحن الديني؟
يحاول البعض تبرير الحكم ضد أحمد عبده ماهر باعتباره اختراقا سلفي لمؤسسات الدولة التشريعية والقضائية، ويحاول غيرهم تبريره بأنه فلسفة خاصة بالدولة لمنع التشاحن الديني، بالإضافة لمحاولات أخرى تقدم الحكم باعتباره ناتجا من مواءمات بين الدولة والمؤسسة الازهرية، أو ناتجا من حرص الدولة على التخصص في الدين ومنع الفوضى، ومحاولات أخرى تبرر الحكم باعتباره استراتيجية من الدولة لمواجهة الإرهاب بمنع الأصوات التي تثير حفيظة الإرهابيين!.
لكن المدهش بغض البصر عن كل هذه التبريرات والادعاءات، أن الدعوى والحكم لا علاقة لهما إطلاقًا بقضية منع الفتن الطائفية أو التشاحن الديني أو التخصص في الدين أو مواجهة الإرهابيين،
فصاحب الدعوى صرح بوضوح أنه رفع الدعوى لأسباب عقائدية، خوفًا من أن “يأتي يوم القيامة وإذا بالناس يفاجأون بأن دين الإسلام يختلف عن دينهم الذي أخذوه عن تلك الثلة الكاذبة المخادعة”!.
الدعوى القضائية إذن تحمل سمات بل ما يمكن اعتباره خطابا تحريضيا ضد كل من يقدم رؤية أو صورة مختلفة للدين، ومن ثمَّ فإن شماعة الخوف من صناعة فتن أو تشاحن ديني، هي في الحقيقة محض هراء وادعاء تتنافى تماما مع حجة تلك الدعوى القائمة من الأساس على التشاحن الديني ضد فئة عريضة من القرآنيين.
ومن ثمَّ إذا كنا نريد حقًا القضاء على الفتن الطائفية والدينية، لابد من إلغاء قانون ازدراء الأديان هذا، ووضع قانون آخر خاص بمواجهة كل من يحرض على الكراهية والعنف ضد الأشخاص والمجموعات البشرية فقط، وليس ضد أفكارهم ومعتقداتهم.