نظرية الأمر الإلهي | إن لم يكن هناك إله.. هل تصبح كل الجرائم مباحة؟ | مصطفى ماهر

نظرية الأمر الإلهي | إن لم يكن هناك إله.. هل تصبح كل الجرائم مباحة؟ | مصطفى ماهر

17 Jul 2021
الدين
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

في رواية “الإخوة كرامازوف” يقول الأديب الروسي الشهير “دوستويفسكي” على لسان بطله “إيفان”:

“إذا لم يكن الله موجودًا فكل شئ مباح.. حتى الجريمة”

ذاع صيت العبارة طوال القرن العشرين، حتى خارج دوائر الاهتمام الأدبي، مجسدة نظرية قديمة تقول إن وجود الإله هو الضامن الوحيد لأفعال البشر الخيرة، كما أن تلك الأوامر الإلهية هي الرادع الحقيقي ضد شيوع الجريمة في المجتمعات.

في المقال، نناقش نظرية الأمر الإلهي: هل فعل الخير متوقف فعلًا على الأوامر الإلهية؟ أم أن للأخلاق دوافع إنسانية أخرى؟

الدجاجة أم البيضة؟ بدايات فكرة الأمر الإلهي

الشكل الأقدم من نظرية الأمر الإلهي طرحه الفيلسوف اليوناني أفلاطون في محاورة “يوثيفرو”.

حينها، كانت مدينة أثينا وثنية تؤمن بتعدد الآلهة.

كانت الآلهة غير متفقة على تحديد ماهية الخير والشر. الآلهة نفسها متصارعة حول ما هو الصواب وما هو الخطأ. ولو سألت كاهنين من معابد مختلفة عن فعل ما إن كان خيرًا أو شرًا، ستحصل على إجابات مختلفة.

اقترح يوثيفرو حلًا يمكن من خلاله تحديد ما هو الخير: “ما تتفق عليه جميع الآلهة”.

عارضه سقراط باعتبار أنه “لا توحيد بين الآلهة. وكما أن البشر لا يمكن أن يتفقوا على الخير. فالآلهة كذلك”.

في تلك اللحظة وضع سقراط سؤالًا محوريًا:

“هل يعد الخير خيرًا لأن الآلهة اختارته؟ أم الآلهة اختارته لأنه خير؟”

تساؤل يضعنا أمام خيارين:

  • إن كانت الآلهة محددة بمعيار للصواب والخطأ، هل هناك قوة أخلاقية عليا تقيد أوامر الآلهة؟

  • إذا كان الخير هو فقط ما تفرضه الآلهة من شرائع، فهل الأمر الإلهي هو الخير حتى لو كان يأمر بالقتل؟

لا إجابة سهلة لتلك المعضلة. لكنها ظلت بالنهاية مجرد تساؤل فلسفي في سياق مجتمع وثني.

ومع ظهور الديانات التوحيدية، عادت المعضلة للظهور.

الإله الواحد والضرورة الأخلاقية

تعدد الآلهة في الديانات القديمة كان مبررًا للاختلاف حول تحديد ما هو الخير. لكن مع ظهور الديانات التوحيدية التي تؤمن بإله واحد، كان مفترضًا أن تختفي المعضلة؛ حيث الأمر الإلهي محدد بدقة بخصوص الخير والشر.

مع ذلك لم يتوقف الاختلاف، بل تحولت القضية إلى “كيف نفهم الأمر الإلهي بمعناه المقصود؟” فمن المعروف أن هناك العديد من التفسيرات المختلفة للنصوص المقدسة في الديانات التوحيدية.

وفي ظل الديانات التوحيدية، عاد السؤال السقراطي القديم بصورة جديدة:

“هل الأفعال صحيحة أخلاقيًا لأن الإله يقول ذلك، أم أن الإله يأمر بها لأنها صحيحة في ذاتها؟”

اختلف علماء اللاهوت المسيحي حول مرجعية الأمر الإلهي:

القديس أوغسطين ومؤسس البروتستانتية مارتن لوثر وعالم اللاهوت كارل بارث قالوا إن الأمر الإلهي هو الذي يحدد الخير.

بينما اعتقد القديس توما الأكويني مثلًا أن الله يأمر فقط بما هو خير في الأساس.

نفس الخلاف ظهر في الفكر الإسلامي: يقول الأشاعرة وأهل الحديث إن الخير مرتبط بإرادة الله، بينما يرى المعتزلة وابن رشد أن الخير قيمة في ذاته والله يُرسل الشرائع التي تتفق مع الخير.

لكن، ما أهمية الخلاف حول المسألة في ظل أن الأمر الإلهي واحد في النهاية؟

إذا سلمنا بأن الخير هو قيمة في حد ذاته، وأن الله يرسل الشرائع لتوافق الخير، إذن، فالخير يمكن أن يدركه الإنسان بعقله، حتى لو لم يرسل الله أمرًا به،

أما إذا كان الله هو الذي يحدد الخير، حتى لو كان مخالفًا للعقل، ستصبح الأفعال الأخلاقية بلا معنى، أي أنها مجرد تنفيذ لأوامر (حتى لو كانت تدعو للقتل مثلًا).

هنا نأتي لسؤال مهم: هل تعتمد منظومة الأخلاق فقط على الأمر الإلهي فعلًا؟

تراجع الأخلاق: هل السبب غياب الدين؟

يدعي أصحاب نظرية الأمر الإلهي أن تعاليم الدين هي الضامن الوحيد لوجود الأخلاق، وبدونها تنهار المنظومة ويتمزق المجتمع.

وتُدعم نظرية الأمر الإلهي بحجة شهيرة تركز على وجود ارتباط ما بين تراجع التقيد بالأوامر الإلهية وبين زيادة الجرائم والمشكلات الاجتماعية، وعلى رأسها معدل جرائم القتل والسرقة وزيادة الأمراض المنقولة جنسيًا.

فهل باتت المجتمعات البشرية أقل أخلاقًا لأن الدين تراجع كما يقول أصحاب نظرية الأمر الإلهي فعلًا؟

توجد أدلة تشير أن بريطانيا مثلًا، تشهد حوالي 6 ملايين جريمة سنويًا. وفي الولايات المتحدة بين 1960 و1992، زاد معدل جرائم العنف المبلغ عنها.

لكن، ورغم صحة الأرقام، إلا أن تلك الحجة تعتمد على غياب المقارنة مع الماضي. فرغم ارتفاع جرائم العنف منذ 1950، إلا أنها في الواقع أقل كثيرًا مما كانت عليه قبل قرنين، وهي الفترة التي كان فيها الدين مسيطرًا على الأفعال الأخلاقية.

بالمقابل، ثمة تغيرات كثيرة واضحة جرت منذ منتصف القرن العشرين، ربما تفسر ارتفاع معدلات الجريمة، منها مثلًا، أن تنقلات البشر تضاعفت، وزادت احتمالات بقاء المنازل خالية في ساعات النهار، وأصبح الناس أقل معرفة بهوية جيرانهم، عكس المجتمعات القديمة القائمة على الترابط الأسري، وهو عامل فعال جدًا في إيقاف الجريمة.

من ناحية أخرى، حدثت تطورات إيجابية في السلوك العام للبشر منذ منتصف القرن العشرين، فقضايا مثل نبذ العنصرية، ومكانة المرأة اكتسبت مكانًا واسعًا لو قورنت بالقرون السابقة المعروفة بانتشار العبودية، وأن مكان المرأة الوحيد هو المطبخ!

وإن كان انخفاض معدلات التدين هو السبب الرئيسي وراء الاعتلالات الاجتماعية، فلنا أن نتوقع أن البلدان الأقل تدينًا الآن أن تعاني من أشد المشكلات. إلا أن العكس قد يكون صحيحًا.

عندما نلقي نظرةً على ديمقراطيات العالم المتقدم، نجد أن أكثرها تدينًا – وبينها الولايات المتحدة بالطبع، عادةً ما تسجل أعلى معدلات الجريمة، في حين أن المعدلات تنخفض في أقل البلدان تدينًا، مثل كندا واليابان والسويد.

على هذا الأساس، لا يتضح بأي حال أن تراجع الدين – كما تزعم نظرية الأمر الإلهي – هو سر ارتفاع معدلات الجريمة؛ فمجرد وقوع أمرين في الوقت نفسه لا يقيم علاقة سببية بينهما.

على ماذا تعتمد الأخلاق إذن؟

الدين قد يكون عاملًا مهمًا في دعم الأخلاق في المجتمع. لكنه ليس العامل الحاسم ولا الوحيد.

العقل الإنساني قادر على تحديد الخير والشر، وقد فسر بعض فلاسفة الدين، وبينهم المعتزلة في السياق الإسلامي، الأمر على أنه طبيعة الإنسان الأصلية “فطرة الله”؛ فالعقل عندهم قادر على تحديد الحسن من القبيح والضار من النافع قبل الوحي، بل أن تلك المعرفة العقلية للخير شرط ضروري لتقبله الشريعة الإلهية.

كذلك يشير التراث الإنساني الطويل إلى أن الأخلاق لا تعتمد فقط على الأمر الإلهي.

الثقافة الصينية تعتبر أكبر دليل على ذلك، حيث نجد منظومة أخلاقية كاملة استمرت في المجتمع الصيني لقرون طويلة رغم أنها أخلاقيات إنسانية (الكونفوشيوسية مثلًا) لا علاقة لها بالدين بمعنى الوحي الإلهي. 

كما يوجد كمٌّ كبير من الأدلة العلمية المتزايدة على أن منظومتنا الأخلاقية هي – إلى حد ما – نتاج تاريخنا الطبيعي التطوري؛ فهناك مواقف أخلاقية معينة موجودة في العالم بأسره رغم اختلاف علاقتها بالدين.

فعلى مستوى العالم، يمتلك الناس الأفكار البديهية الأخلاقية الأساسية ذاتها عن السرقة والكذب والقتل، بغضّ النظر إن كانوا دينيين أم لا.

وكل مجتمع تقريبًا منجذب إلى شيء من قبيل القاعدة الذهبية: عامل الناس كما تحب أن يعاملوك! 

ثمة أدلة على أن أفكارنا البديهية الأخلاقية حول ما يجب علينا، أو ما لا يجب علينا القيام به، مكتوبة على الأقل، في جيناتنا قبل أن تُكتب في أي كتاب ديني بوقت طويل.

لم يصنع الدين منظومة الأخلاق، بل قامت الأديان بتقنين منظومة الأخلاق الأساسية المجبول عليها البشر من الأساس. فباعثنا الأول للتصرف على نحو أخلاقي يبدو طبيعيًا وغريزيًا.


مراجع إضافية في نظرية الأمر الإلهي

1- إذا لم يكن هناك إله.. هل يمكن لأي شيء أن يكون خيرًا بشكل موضوعي؟ (بيج ثينك)

2- الإنسانية: مقدمة قصيرة جدًا – ستيفن لو – ترجمة: ضياء وراد

3- المحاورات الأفلاطونية الكاملة المجلد الثالث – محاورة يوثيفرو – ترجمة: شوقي داوود


 

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك