كي لا تصير الحضارة والهوية مجرد سبوبة.. هل يقتدي السيسي بأغسطس قيصر؟ | مينا منير

كي لا تصير الحضارة والهوية مجرد سبوبة.. هل يقتدي السيسي بأغسطس قيصر؟ | مينا منير

6 Apr 2021
مينا منير دقائق

مينا منير

باحث بجامعة لوزان - سويسرا

مصر
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

منذ نحو ثلاثة أعوام، اصطحبت أسرة إنجليزية إلى الأهرامات. كانت الأجواء كارثية! الغوغائية والهمجية التي يعامِل بها ملاك الخيول والجمال ومن ليس لهم محل من الإعراب هناك السياح مؤلمة للنظر.

لكن مشهدًا ظل عالقًا في ذهني كل هذا الوقت، وللأسف لم أنجح في منع ذاكرتي من استدعائه وأنا أشاهد موكب المومياوات الملكي.

المشهد كان ذلك الخيّال الذي يبدو أن “هرمونات الذكورة” ضغطت عليه في حضور فتاتين يحاول إبهارهما، فأطلق صرخة يسب فيها “الدين” للسياح ضاحكًا، ثم يسب والدة خوفو! فينفجر أصدقاؤه من الضحك، وبالطبع الفتاتان.

Middle East Egypt GIF by Acorn TV - Find & Share on GIPHY

فلسفة الـ “شوية حجارة”

هذا المشهد “المقزز” يحمل في طياته ما هو أبعد من مجرد شاب “يتشبحن” أمام نظرائه.

الشاب على الأرجح من سكان نزلة السمان الذين يعيشون بشكل شبه كامل على قطاع السياحة وتحديدًا أهرامات الجيزة؛ أي أن خوفو عمليًا يعول هؤلاء، وبفضله وحده يعيشون ويقتاتون.

هذا الشاب يدرك ذلك تمامًا، ولكنه لا يدرك أي شيء أبعد من ذلك.

خوفو بالنسبة له هو اسم على “بتاعة كبيرة” تجذب السياح وتدر عليه الأموال؛ أي أن علاقة الشاب السرسجي بالحضارة الفرعونية وتحديدًا السيد خوفو لا تتجاوز النفعية البحتة المجردة من أية معان أو ارتباطات إنسانية أو تاريخية من أي نوع. فحصانه على الأرجح يحمل في صدره شعورًا بالانتماء نحو باحة الأهرامات أكثر منه.

 صديقنا السرسجي لا يختلف كثيرًا عن بائع البازار داخل حرم الأهرامات الذي كان يستغفر الله في كل ثانية وهو يتململ، ليس فقط من منظر السائحات “السافرات” ولكن أيضًا من اهتمامهم بتلك الأصنام!

بل بالعكس، صديقنا السرسجي يتعامل مع الأهرامات بقدر يفصل فيه العاطفة عن النفعية البحتة؛ أي أنه – على الأقل – لا يحمل أية ضغينة تجاه الأهرامات. وهذا أمر لا يخلو من الاحتراف مقارنةً بالبائع الذي يمقت ويكره ذلك الكفر والشرك الذي يجد نفسه مضطرًا في التعامل معه.

أتذكر جيدًا حينما زرت غرفة المدرسين وأنا طالب في الثانوية، بعد عيد الفطر، رأيت أستاذ الأحياء يقول لزملائه أن أبناءه ألحوا عليه في زيارة الأهرامات. لكنه رفض؛ لأنه لن يدفع المال من أجل رؤية “شوية حجارة”.

وحينما أراد مدرس الرياضيات أن يوضح له أنها أكثر من مجرد حجارة وأنها مقابر ملكية عظيمة، رد الأستاذ: “وكمان مقابر؟ يعني أدفع فلوس في النجاسة؟”

هل علاقة الدولة بالقدماء نفعية بعتة

المشترك بين القصص الثلاث المذكورة هو النفعية المادية البحتة؛ الثلاثة نظروا إلى الأهرامات من زاوية المال: الأول يجني الأموال بـ “الشبحنة”، والثاني مُكره على التعاطي مع هذه “النجاسة” من أجل الأموال، والثالث تراجع عن فكرة زيارتها لأنها في نظره لا تستحق الإنفاق على تذاكرها.

لكن هل النفعية البحتة هي أيضًا ما يحدد علاقة الدولة بالحضارة؟

بمعنى آخر: هل السبب في موكب المومياوات الملكي المَهيب هو تنشيط السياحة فقط؟

هل قضية الدولة في التعاطي مع المصريين القدماء هي قضية استدرار العملة الصعبة من جيوب الأجانب؟

بمعنى ثالث: هل الحضارة هي تلك البقرة التي تمسك الدولة بقرنيها وصديقنا السرسجي يحلبها؟

ظني أن الدولة اليوم تمتلك من الذكاء – على عكس العهود السابقة – ما يكفي لتستشعر  نبض الشارع بوضوح. فقد تفاجأ الجميع، ليس فقط بجمال الإحتفال، ولكن بردة فعل الشارع على اختلاف طبقاته الاجتماعية ومرجعياته السياسية، التي نجحت بشكل أزعم أن التاريخ الحديث بمصر لم يشهد له مثيل في اكشاف رابط ما يربط الناس بتلك الحضارة..

رابط يقزِّم معادلة النفعية البحتة وحسابات تنشيط السياحة التي جلبت كوارث كبرى في عصور الرؤساء السابقين.

لماذا ظل السيسي صامتا في استقبال الموكب الذهبي؟ مصر حقيقة مش أساطير | خالد البري

الهوية المصرية

تقف الدولة بهذه التجربة الناجحة مجردةً من أي حجج يمكن أن تبرر لها عدم الاعتداد بدعم الخطاب الوطني المصري المبني على هويتها العابرة للزمن وللانقسامات الدينية.

أمام الدولة اليوم سرب كامل من العصافير التي يمكن أن تصطادها بحجر واحد؛ فالالتفاف غير المسبوق للشعب حول الدولة في تلك الاحتفالية يؤمن لها الغطاء السياسي القوي الذي تبحث عنه الأنظمة السياسية.

كذلك ستجد الدولة تلك الثقافة النقية التي تدعو للخير والنماء والعِزة كبديل لثقافة الدم والقتل والتكفير التي لطالما اشتكى الرئيس من حضورها، حتى أنه وقف واعدًا رجال الدين بمحاججتهم يوم القيامة.

هي أيضًا تلك الثقافة التي ستؤمّن للدولة نهوضًا حقيقيًا بكفاءة الفرد الذي خرج من مشهد احتفال موكب المومياوات الملكي سعيدًا منتشيًا فخورًا بقيمة غير نفعية اسمها الحضارة المصرية.

أليس هذا في حد ذاته مكسبًا حقيقيًا إذا ما أعطينا المواطن فرصة أن يقرأ ويستلهم قيم تلك الحضارة بدلًا من آراء كهنة وشيوخ وفتاوى عابرة لحدود الدول، جالبة معها ما يزعزع ثقة الفرد في ماضيه ومستقبله وواقعه هو وبلده؟

أمام الدولة اليوم فرصة ذهبية كذهبية موكب المومياوات الملكي.

فهل سترى فيها ما رآه قادة وعظماء التاريخ كأغسطس قيصر الذي استخدم قيم الحضارة واستدعى الماضي لمواجهة التفسخ الاجتماعي والفردي الذي حطم الجمهورية الرومانية

فحولها بذلك لأعظم امبراطورية في تاريخ الحضارة الرومانية حينما صنع من سلة القيم الحضارية ما يشكل هوية الفرد الروماني الـ (Romanitas)، أم أنها ستسلك مسلك من تعاملوا مع الحضارة كسبوبة؟

الأيام المقبلة وحدها ستتضح معها الرؤية.


 

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك