موكب المومياوات الملكية.. رسائل من العالم الآخر | عمرو عبد الرازق

موكب المومياوات الملكية.. رسائل من العالم الآخر | عمرو عبد الرازق

5 Apr 2021
عمرو عبد الرازق
مصر
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط
“استيقظ أيها القاضى. انهض عاليًا يا تحوت، أيها النائمون هبوا استيقظوا يا من في كنست (السماء)”
متون الأهرام
وكأن القدر لم يرد لمصر أن يكون موكب المومياوات الملكية حدثًا احتفاليًا مجردًا، فقد أوجد له مقدمات تجعله حفلًا تتويجيًا باستحقاق، قائما على إنجاز وطنى، بعد مرور مصر بتحدٍ كبير فى أزمة إغلاق قناة السويس قبل أسبوعين، والتي كان يمكن لها لو استمرت أن تقضي على روح الحدث تمامًا، وربما تحتم تأجيله..
وبين الحدثين تذكير بقبضة حاكم مصر بأن النيل من حق المصريين!
والسفن تجري في النهر صاعدة أو منحدرة فيه على السواء
وكل فج مفتوح لشروقك
والسمك يسبح في النهر أمامك
وأشعتك تنفذ إلى أعماق البحر
“أناشيد أخناتون”

والحق أن القدماء لم يتوقفوا عن العطاء يومًا، سواء تجاه أحفادهم ووارثيهم أو تجاه الإنسانية ككل..

فيوم أن دشنوا فلسفتهم الشاملة، جعلوا من موتهم حياة عن صدق وتصديق، ومن فناء أجسادهم بناءً مكتملًا، وتجربة تعادل الحياة في دهشة استكشافها..

فزيارة المقبرة المصرية القديمة، لا تحيلك إلى قتامة أو كآبة، قدر ما تحيلك إلى فكر وتأمل، بل وإلى الجمال ذاته. لا سبيل للخوف بداخلك والانزواء هناك. حياة أخرى مستلهمة من الجنة الأولى “مصر” التي حباها الإله بها بثرائها وتنوعها، فنقلها معه إلى مقبرته مصورًا تفاصيل بيئتها، كأمنية له في عالم الخلود.. أن تتأمل الجماليات بمقبرة مغلفة بالرهبة والخشوع، فلقد أحالت الموت حياة!

“ومع أن العبد مستعد لارتكاب المعصية، فإن الرب متهيئ دائمًا لأن يكون رحيمًا. لأن رب طيبة لا يمضي يومًا بأكمله غضبان. فغضبه ينتهي في لحظة ولا يبقى شيء، والريح قد تحول إلينا رحمة بنا، وآمون يتحول مع ريحه”
“أناشيد قصيرة وصلوات من تمارين تلاميذ المدارس”

وللأقدمين إشارات لا نزال نلتقطها.

الأرض والجبل والبيئة الجافة مكان طيب لإخفاء كنوزهم وتاريخهم، حتى يأتي وقت الأمان، وبهدية عابرة للزمن، تقدم من الجد للحفيد لإثبات الحق في المكان والإرث، في واقع تتنازع فيه الهويات، ويسعى المتنافسون إلى نهش ما يمكن نهشه من تاريخ وحضارة وأراض ومياه.

الأمر يتخطى الرغبة في الخلود. فما الذي يجعل أناسًا منذ قرابة  4 آلاف سنة يتركون لك ماكيتات مصغرة لمنازلهم ومقار أعمالهم ومدارسهم؟! يعدونها بعناية كأنها مقصودة أن تصل إليك سليمة بحالتها، لحفظ وتوثيق ما فعلوه قبل التسجيل التليفزيونى والحفظ الإلكترونى.

ما الذي يجبره أن يعيش حياته وهو يفكر في القادمين بعده؟ ما الذي يجعل لديه الإصرار على إرساء حياته مرشدًا لزمان تالٍ؟ ما الذي يجعله يقرر توريث الحكمة والأرض والمقتنيات؟!

الإِشارات غير منكورة. اليوم أنت تفخر بأصلك وسط ثقافة يصم أبناؤها مخالفيهم بسباب التشكيك في النسب.. أنت لا ترد بجدك ونسبك وحاكم بلادك القديم كاسم وسط روايات الكتب القديمة والأساطير، بل تأتي به هو ذاته بجسده وكيانه، لتقدمه للجميع كجد وحاكم مؤسس وحكيم!

أنت تقول بثقة: أنا هنا منذ آلاف السنين.

ما ثمن هذا اليوم؟!

انظر إلى يمين خريطتك، وشاهد علام يتقاتلون!

الإشارات المرسلة استلهمتها أنشودة الموكب. نص من نقش الجدود بلغة غير مستخدمة، تشدوه مطربة معاصرة بإحساس يترجم قول اللسان، يسمع الحاضرون دعوة إيزيس وعلى رؤوسهم الطير وكأنهم يعون ما يقال، دون ملل أو فقدان للتركيز. يشعرون بإلهام الرسالة المبعوثة من هناك – بعيدًا.. وإن لم يعوا كلماتها، هذا الخشوع لنا، وكأننا سمعناه في زمان آخر ونحاول استعادته، لا يفيق أحد من سكرته إلا بسكون العازفين.

“إن بيت الله يمقت الهرج، فصلِّ بقلب محب ولا تجهر بصلاتك، وبذلك ستقضي كل حوائجك، وسيسمع الله ما تقول ويتقبل قربانك..”
“نصائح آني”

لم تنقطع الصلات وإن انحرف اللسان واختلفت معالمه. تصل الرسائل من العالم الآخر في معجزة جديدة.

الرئيس لم يمثل فقط حضورًا بروتوكوليًا لمنصبه، لكنه قام بدوره كجزء أصيل من العرض يبدو كأنه قد شارك في بروفاته، الممرات الممتدة التي لم يظهر بها سوى الرئيس وحده، يسير في مهابة، في وحدة توازي أبدية حياة الملوك محل الاستقبال.

بدا كأنه يشرف على إعداد موضع أسلافه الجديد ثم خرج لاستقبالهم وحده فى جلال يحبس الأنفاس، يبارك الراحلون الجالس على عرشهم العتيق. يودعهم الرئيس فى مستقرهم ومقامهم الجديد، الذي أُعِّد محاكيًا لمقابرهم الأولى.

“زين مثواك (قبرك) الذي فى الغرب وجمّل مكانك في الجبانة بصفتك رجلًا مستقيمًا مقيمًا للعدالة، لأن ذلك هو الشيء الذي تركن إليه قلوب أهل الاستقامة”..
“التعاليم الملقنة للملك مري كا رع”

موسيقى وغناء بالعربية والمصرية القديمة، ولجنا بها حياة ماضية، سمت أرواحنا معها دون تأهب، صمت بغير صمت، سكون بالكلمات، موسيقى تداعب عقلك الباطن. نجح الحفل في خلق الحالة الملائمة، الفخر والقوة وعمق الوجود، والموكب الجنائزي الملكي العظيم، يجمع الأحياء بالموتى، نشدو دون فرح يخالف جلال الحدث، نستعرض جمالًا وهيبة ولا نبتذل،

حالة النشوة التي اعترت المصريين لا يمكن وصفها بالسرور التقليدي، ولكنهم عاشوا لحظات عبرت بهم بضعة آلاف عام للوراء، ودون دليل مادي شعروا أن هناك شيئًا قد عاشوه من قبل، يمر بهم الآن.. الصلة لم تنفصل.

 ما أسعد حالك “روحك” أيها الملك بين أخوتك الآلهة..
لكم تغيرت لكم تغيرت
احم أولادك واحرص على حدودك التي على هذه الأرض
دثّر جسدك.. لعلك تأتي إليهم
“متون الأهرام”

في الأجواء الجنائزية، تفرض التقاليد الصمت على الحضور. الرئيس لم يتحدث بكلمة واحدة طوال ساعات الحدث، المراسم تتم بالحركة البدنية، أي موقف جليل هذا.

أيها التاج “نِت” أيها التاج “إنو” أيها التاج العظيم
أيها الساحر أيها الصل “نسرت”
ليتك تجعل الفزع يكون أمامي كالفزع الذي أمامك
ليتك تجعل الخوف الذي يتقدمني كالخوف الذي يتقدمك
ليتك تجعل الاحترام الذي أمامي كالاحترام الذي أمامك
ليتك تجعل الحب الذي أمامي كالحب الذي أمامك
“متون الأهرام”

ربما كان الحدث ظاهره موكبًا لنقل مومياوات قديمة، لكنه من زاوية أخرى يمثل استمرارية لهيبة الحكم في مصر، ووصلًا لمصر المعاصرة بمصر القديمة، وتكريمًا من الأحفاد للأجداد.

إضافة إلى مكاسب معنوية لا حصر لها، والمكاسب المادية والاقتصادية التي لم تنقطع من خير وعمل يد الأقدمين.

إن قطع وصال المصريين بأسلافهم جريمة، لا يأتيها سوى محتل. وإن ساعتين مباركتين من الزمان ليلة الثالث من أبريل، قد جعلت المصريين يعيشون تجربة لم يخوضوها قبلًا، يصلون الزمان والأرحام، ويذوقون نشوتها العميقة التي مست أرواحهم، وقد حرموا منها عمدًا طويلًا لصالح انتماءات مفتعلة..

فما بالنا لو كانت تلك الروعة هي نمط حياتنا التقليدي!

ما أعظم اغتباط الآلهة! قد جعلت قرابينهم ثابتة
وما أعظم اغتباط أراضيك! وقد ثبّت حدودها
وما أعظم اغتباط آبائك! فقد زدت في أنصبتهم
وما أعظم اغتباط مصر بقوتك! فقد حميت النظام القديم
“أناشيد سنوسرت الثالث”

 

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك