“انتَ مش انتَ، وانتَ جعان”.. هل تتذكر هذا الإعلان الشهير الذي ذاع صيته منذ سنوات عن شخصٍ يرى العالم بشكلٍ مغاير ما أن يشعر بالجوع؟
حسنًا، بالرغم مما يحويه الإعلان من مُبالغات فإنه لم يبتعد كثيرًا عن الحقيقة. فما نُطالعه من جمادات وما نحفظه من أشكالٍ تُحيط بنا، لا تعني بالضرورة أن هذه الصورة حقيقية. هي فقط الصورة التي أقنعتنا أذهاننا أنها حقيقية.
بدأت في الارتباك؟ لا تقلق.
سنشرح لكَ الأمر ببساطة، عليكَ فقط أن تتأكد أنك لست جوعان حتى تُركز بكامل طاقتك.
س/ ج في دقائق
هل نناقش موضوعًا جديدًا؟
على الإطلاق. حقيقة إحساسنا بالموجودات حولنا من أقدم الموضوعات التي ناقشها كبار الفلاسفة قديمًا. وحتى الآن لا ينقطع العلماء عن إضافة المزيد من النظريات.
تجادَل أرسطو مع أستاذه أفلاطون حول حقيقة العالم الذي نتفاعل معه؛ هل هو حقيقي بالفعل كما نراه، أم أنه مختلف قليلاً؟
مات الفيلسوفان اليونانيان الكبيران دون أن يحسما الجدل. جدلٌ استمرّ حتى اليوم.
حاليًا يعتقد العديد من علماء الفيزياء أن معرفتنا بالعالم ليست كاملة أبدًا؛ لأن جزءًا كبيرًا من هذه المعرفة يرتبط بذواتنا وتحيزاتنا التي تؤثر، بلا شك، على صناعة رؤية خاصة جدًا بنا للعالم من حولنا.
هل العالم مختلف عما نراه؟
يقول العالم دونالد هوفمان “الألوان والروائح ليست حقيقية في العالم الموضوعي. فلقد تطورت أدمغتنا لتنظر للعالم بطريقة مفيدة، ليست حقيقية أو دقيقة“.
لا يعني هذا بالطبع أننا نعيش في عالمٍ من الوهم. هو موجود لكنه ليس كما تراه تمامًا.
أثاث الحجرة التي تعيش فيها، والشجرة التي تزرعها جوار منزلك، وبيتك نفسه. كل هذه الجمادات موجودة، لكن شكلها الحقيقي ليس كما تعتقد.
وأوضح مثال على ذلك هو الألوان، وهي نقطة بالغة الأهمية سنُخصِّص لها جانبًا منفصلاً.
هل الأشياء الملونة.. ملونة؟
سأصدمك حين أخبرك أنك لا تعرف اللون الحقيقي لأي شيء يُحيط بك، فالتفاحة الحمراء ليست حمراء كما تبدو.
إذن ما لونها؟ لا نعرف.
بحسب إسحق نيوتن، فإن جميع الأشياء لا تمتلك المظهر الملون الذي نراه، وإنما يأتي هذا اللون نتيجة لانعكاس الضوء الواقع عليه.
فعندما يسقط شعاع الضوء الأبيض (المُكوّن في داخله من كل الألوان الفرعية) على الجماد، يمتصُّ سطح الجماد جميع الألوان الفرعية إلا واحدٍ ينعكس عنها، تلتقطه العين وتُسبغة على مظهر الجماد.
فلنضرب مثالًا للتوضيح، العُشب الأخضر ليس أخضر على حقيقته، وإنما استقبل سطحه دفقة الضوء فامتصت جميع الألوان الفرعية عدا الأخضر الذي انعكس مجددًا نحو العين فاعتبرتْ أنه لون العُشب.
السؤال هُنا: ما هو لون السطح الذي يقع عليه الضوء ثم ينعكس؟
لا أحد يمتلك إجابة حتى الآن
القُدرة على التقاط الألوان تختلف من مخلوقٍ لآخر؛ فالطيور والأسماك والنحل تستطيع رؤية الألوان بدرجاتٍ أخرى يعجز البشر عن تمييزها.
بل وتختلف هذه القُدرة من إنسان لآخر، وأبرز دليل على ذلك قُدرة النساء على تمييز ألوان مستحضرات التجميل بدرجاتٍ شديدة الاختلاف أكثر بكثير من الرجال.
التفوق الأنثوي في مجال البصر ليس كاسحًا، فبحسب دراسة أعدها باحثون في كلية بروكلين، فإن الذكور قادرون على تتبع الأجسام سريعة الحركة ورصد التفاصيل بكفاءة أكثر من النساء.
وهو ما أرجع الباحثون سببه إلى أن أدمغة الرجال تمتلك خلايا عصبية أكثر من النساء بنسبة 25%.
هل نرى بِالعين فقط؟
من الأخطاء الشائعة، أن عملية الرؤية تقتصر على العينين فحسب. الدور الرئيسي للعين هو رصد الأشياء وجمع البيانات فقط، وهي المرحلة الأولى من العملية.
العين هنا أشبه بالجواسيس مرني الحركة الذين عادةً ما يسبقون الجيوش الكبيرة، يجمعون لها البيانات عن كل شيء يُسهّل عليها مهمتها لاحقًا.
بعد انتهاء مهمة جمع البيانات، ياتي دور المخ في مقارنة المعلومات المرصودة بما يمتلكه من ملايين الأشكال التي سبق وأن تعامل معها في الماضي.
نتحدث هنا عن نظام شديد التعقد، يشارك فيه 30 منطقة في الدماغ لإجراء عملية التطابق تلك.
حال وقوع التطابق، تجد نفسك على معرفة بماهية هذا الشيء الذي رصدته عيناك، وتتعامل معه بسلاسة.
أما حال عدم وقوع التطابق، فإنك لن تعرف كنه هذا الشيء، وبكل بساطة ستسأل مستغربًا “ما هذا؟!”.
عندما شاهد سكان أمريكا الأصليون سُفن كولومبوس لأول مرة، وما حوته من بنادق وأدوات أوروبية غريبة عليهم، شعروا بالدهشة ولم تستطع أذهانهم التعرّف على هذه الأشياء.
ببساطة، لم يتوقفوا عن قول “ما هذا؟!”، حتى ألِفوا تلك الحاجات في مرحلة زمنية لاحقة.
هل تختلف الرؤية من شخص لآخر؟
يقول باتريك كافانا، عالم الأعصاب: نحن لا نرى الواقع، وإنما نشاهد قصة تمت صياغتها من أجلنا.
وأوضح كافانا، أن أدمغتنا تنحني، دون وعي، لتلبية رغباتنا وتوقعاتنا.
عام 1954م، أجريت دراسة على طلاب جامعة خلال مشاهدة مباراة لكرة القدم، أثبتت أن كل طالب، بشكلٍ غير واعٍ، لم يرَ إلا الأخطاء التي ارتكبها الفريق المنافس.
عادةً ما تلعب الدوافع دورًا كبيرًا في تحديد ما نراه، وهو ما يُسمّى بـ”الرؤية المتحفزة”.
وفقًا لدراسة أجراها باحثون في جامعة ستانفورد، قدّموا للمشاركين صورة غير واضحة مع وعدٍ بدفع مكافأة مالية حال رؤية أشكال معينة حدّدها الباحثون لهم.
المفاجأة، أن أغلب المشاركين رأوا الأشكال التي ستقودهم للمكافأة المالية.
وهنا لا نتكلم عن ادعاء المشارك بأنه شاهد الشكل المطلوب ليُرضي المُنظمين، وإنما ما شاهده مخه بالفعل من الصورة، بفعل مجسّات حسية استخدمها الباحثون عليه.
وهو ما يُفسِّر ببساطة درسات لاحقة أثبتت نتائج مثيرة للدهشة، مثل اقتناع العديد من البيض أن السود أضخم حجمًا -عن الحقيقة- وهو ما يجعلهم أكثر خطرًا، أو ربطهم -بشكلٍ عام- بين لون البشرة السمراء وبين وجود نزعة إجرامية في وجوه الأشخاص الذين يتعاملون معهم.
ما هو أشهر مثال على اختلافات الرؤية؟
منذ أعوامٍ انتشرت عبر شبكات التواصل الاجتماعي صورة لفستان بسيط التصميم. رغم ذلك، حققت هذه الصورة ملايين التفاعلات حول العالم، فلماذا؟
رآه البعض فستانًا باللونين الأزرق والأسود، فيما أقسم آخرون أنه أبيض وذهبي! فكيف وقع هذا الاختلاف على نفس الصورة؟
كيف رأى الناس الفستان عينه بأربعة ألوانٍ متباينة؟
فسّرت دراسة تابعة لمعهد “ماساتشوستس” الأمريكي، بأن السر كله في إضاءة الغرفة التي جلس فيها الإنسان لحظة مشاهدة الفستان والإضاءة المنبعثة من الشاشة.
إذا كانت الإضاءة صفراء سترى الفستان أزرق، وإذا كانت تميل للأزرق ستراه أبيض وذهبيا.
وهكذا تلعب طبيعة الإضاءة المُحيطة بنا دورًا رئيسيًا في تغيير رؤيتنا لألوان الأشياء التي ننظر إليها.
كيف يحدث الاختلاف؟
الأمر لا يزال خاضعًأ للدراسة، إلا أن أحدث النظريات فسّرت وقوع هذه الظاهرة بأن خلايا المخ المسؤولة عن تفسير تلك المعلومات تتحيّز وتتأثر ببعض العوامل الخارجية.
السر في معالجةالمخ إذن. فالعين كأي جندي محترف تقوم بدورها في رصد الأمر كما هو، لكن الاختلاف ينشأ عند قيام المخ بمهامه المعقدة لتحليل الصور المرصودة.
هذه العملية كثيرًا ما تتأثر بما تختزنه هذه الخلايا المخية من انطباعات أو تحيزات سابقة، وهو ما ينعكس بلا شك على النتيجة النهائية للتحليل.
وهو ما يعني أن رغباتنا وأهدافنا لها تأثير كبير في حياتنا، ليس فقط على سبيل التحفيز، وإنما لأنها تصيغ رؤيتنا للعالم من حولنا حرفيًا.