يعتبر المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أنه لا يمكن تجاهل سياسات تركيا أردوغان أكثر من ذلك؛ لأنها باختصار تجر أطراف أوروبا إلى الحرب، وتدفع تركيا نحو مواجهة مباشرة مع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، خصوصًا اليونان وقبرص.
هذا من الناحية النظرية، لكن عمليًا لا يوجد إجماع داخل الاتحاد حول كيفية المضي قدمًا. فبينما ترى إيطاليا وألمانيا وإسبانيا اتباع نهج هادئ، تفضل فرنسا الانخراط فورًا في مسار احتواء وتقييد أنقرة.
فرنسا أدركت أن الاتحاد الأوروبي لن يكون قادرًا على التحرك إستراتيجيًا ككتلة للرد على سلوك تركيا المتصاعد، فقررت أخذ زمام المبادرة، خصوصًا مع علاقات البلدين المتوترة منذ الحرب العالمية الأولى وحتى الآن.
البداية كانت الحرب الفرنسية التركية (1918 – 1921) والتي اندلعت كنتيجة مباشرة لاتفاقية سايكس بيكو 1916، التي منحت فرنسا السيطرة على سوريا العثمانية وجنوب الأناضول.
وبعد الحرب العالمية الثانية، اندلع نزاع جديد بسبب التدخل التركي في قبرص، حينها أخبر الجنرال ديغول، الرئيس التركي السابق عصمت إينونو، أن هناك مجتمعين في قبرص وبالتالي من المستحسن تقسيم الحدود بينهما، استمرت التلاسنات بين الدولتين إلى أن تولى جيسكار ديستان حكم فرنسا في 1974 وقاد زمام الدول التي تدين التدخل التركي في قبرص بعد الانقلاب الذي شجعه المجلس العسكري الحاكم في أثينا. حيث غزت القوات التركية قبرص واستولت على 37% تقريبًا من الجزيرة.
منذ ذلك القرار، تنقلت العلاقات بين فرنسا وتركيا من سيء إلى أسوأ. في فرنسا، لا توجد حتى الآن حركة سياسية واحدة تدعم عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي. الاستثناء الوحيد كان رئيس الوزراء السابق ميشال روكار.
كما لا تزال المجازر الجماعية التي ارتكبتها الحكومة العثمانية ضد الأرمن جرحًا مفتوحًا في فرنسا حتى الآن.
تشخيص غربي أخيرا | إردوغان يعيد إحياء الإمبراطورية العثمانية.. ما الوسيلة؟ وما الثمن؟| س/ج في دقائق
يرى المجلس الأوروبي أن التنقيب عن النفط والغاز في شرق المتوسط نقطة اشتعال قد تدفع تركيا قريبًا إلى مواجهة مباشرة مع فرنسا واليونان.
منطقة شرق المتوسط تتمتع بأهمية للاتحاد الأوروبي؛ حيث ستوفر أكثر من 10% من احتياجات أوروبا من الغاز الطبيعي؛ ولذلك يمول الاتحاد مشروعات للغاز في المنطقة، كما تدعمها الولايات المتحدة بقوة سعيًا لموازنة صادرات الطاقة الروسية إلى أوروبا.
هنا، يعتبر الاتحاد الأوروبي الوصول إلى مصادر الهيدروكربون وإمدادها دون عوائق نقطة حيوية لا تقبل معها استمرار “الضجيج المتبادل”، والتي تغذيها موجة مستمرة من التصريحات العدائية من أنقرة على جميع المستويات، وفقًا لوانيس كورانتيس، السفير اليوناني السابق في أنقرة.
دوروثي شميد، الخبيرة في شؤون تركيا في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، تقول إن الكثيرين في أوروبا ينظرون إلى تركيا على أنها “لاعب عدواني للغاية يشن حربًا في عدة أجزاء من المنطقة ويتصرف بشكل عدواني للغاية ضد الاتحاد الأوروبي”.
ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان.. هل تنازلت القاهرة عن حقوقها كيدًا في تركيا؟ |س/ج في دقائق
في 23 يوليو، على سبيل المثال، طالب ماكرون بفرض عقوبات على تركيا بسبب انتهاكها السيادة اليونانية والقبرصية من خلال التنقيب عن النفط والغاز في مياههما الإقليمية. ماكرون كان يرد على أعمال المسح السيزمي التي تجريها تركيا في منطقة بحرية بين قبرص وجزيرة كريت اليونانية، وهي منطقة مرخصة لشركتي النفط توتال الفرنسية وإيني الإيطالية، فيما تعتبره فرنسا – بجانب كونه تعطيلا لمصالح شركة فرنسية – انتهاكًا لسيادة دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي.
المنطقة جزء من مياه اليونان وفقًا لاتفاقية ترسيم الحدود مع مصر. الاتفاقية التي تقول فاينانشيال تايمز إنها دفعت تركيا للتصرف بمزيد من الاستفزازية ردا على استبعادها من الجهود الإقليمية لاستغلال موارد الغاز في المنطقة، والتي تخضع لمطالبات 8 دول على الأقل من ليبيا إلى مصر إلى إسرائيل وغيرها.
طارق المجريسي، الباحث في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، يعتبر قرار فرنسا بالانحياز إلى حفتر وداعميه من القوى الإقليمية كالإمارات ومصر انعكاسا لانشغالها بحماية مصالحها التجارية النفطية ومحاربة الإرهاب الإسلامي في منطقة الساحل، بعدما باتت تركيا أردوغان تمثل لباريس مشكلة أيديولوجية خطيرة.
وفق هذا الأمر، يفسر المجريسي تحول فرنسا إلى الدولة الأوروبية الوحيدة التي تحركت على أرض الواقع في ليبيا؛ بالنظر لتمايز مصالحها عن ألمانيا وإيطاليا في ليبيا، وامتلاكها شراكة أمنية واسعة مع الإمارات ومصر.
في لبنان كذلك، وفقًا لـ”بي بي سي”، فإن زيارة إيمانويل ماكرون إلى لبنان عقب تفجير بيروت تدخل في إطار الصراع على النفوذ بين تركيا وفرنسا في المنطقة. بالنسبة لـ أردوغان تعد لبنان سوقًا أجنبيًا مهمًا، ورافدًا قديمًا للعلاقات مع الأرمن الذين استقروا فيها بعد مذابح 1915، بينما تعتبر لبنان بالنسبة لتركيا أولوية جيوسياسية بعد الاكتشافات الأخيرة للموارد الهيدروكربونية في حوض شرق المتوسط.
بعد زيارته لبيروت اتهم ماكرون تركيا وإيران بترجيح مصالحهم الجيوسياسية والاقتصادية على حساب اللبنانيين. وهي الزيارة التي سخرت منها تركيا ووصفه مسؤولون أتراك بأنه “مراهق مدلل” يحاول إثبات نفسه للعالم.
وردا على زيارة ماكرون، أوفد أردوغان وزير خارجيته مولود جاويش إلى هناك. ووفقًا لـ”جيوبولتيكس” تعتبر لبنان بالنسبة لتركيا سوقا جذابة، خاصة وأن السوق اللبناني يعتمد في معظمه على المنتجات الأجنبية بسبب ضعف الإنتاج المحلي.