يدافع اليسار في الغرب عن حق كل شخص في تحديد هويته الجندرية ذاتيًا: تقول أنا أنثى فتصبح أنثى حتى لو كنت ذكرًا فسيولوجيًا وبيولوجيا، ودون الحاجة لأي علاج هرموني أو عمليات تحويل.
نظريًا، ربما يظهر الأمر كرفاهية في عالم يفترض أنه تجاوز مشكلاته الكبرى فتفرغ للتفاصيل.
لكن عمليًا، يجادل المعارضون بأن تغيير تفصيلة مثل هذه تحمل الكثير من الإشكاليات:
– أولها، أن يبدأ تحديد الهوية الجندرية من سن الرشد على الأقل،
– وثانيها، الشخص الذي حدد هويته الجندرية كأنثى بينما بقي ذكرًا فسيولوجيًا: أي حمام عام يدخل: حمامات النساء أم الرجال؟ لو ارتكب جريمة: أين يحبس؟ في سجن النساء أم الرجال؟ ولو أراد المشاركة في رياضة: هل ينافس النساء مع اختلافهن عنه في طبيعة التكوين؟! ضاعت النساء إذن!
المعركة تحركت في أوساط الأكاديميا. في الغرب، يفترض أن حق الجميع – مؤيدين ومعارضين – في التعبير مضمون. وهو المبدأ الذي استخدمه أنصار نظرية الجندر لنشر أفكارهم. لكنهم الآن يمنعون المخالفين من استعمال نفس الحق.. وصل الأمر للفصل من الوظيفة لمن يروج لرأي آخر.
من هنا، تحركت القضية إلى المحاكم، ومنها إلى البرلمانات التي باتت مطالبة بتحديد موقفها من الحرب الجندرية.
س/ج في دقائق
على أي أساس تتحرك الحرب الجندرية؟
فسيولوجيا، يقسم البشر جنسيًا إلى ذكر وأنثى، أو ثنائيي الجنس “حال تعقد تحديد الجنس بالولادة مع اختلافات كروموسومية أو فسيولوجية تجعل تحديد الجنس مسألة معقدة”.
المسألة مختلفة جندريًا؛ إذ يستند تحديد “النوع الاجتماعي” – “الجنوسة” – إلى السلوك والتوقعات والمظهر الخارجي الذي يُنظر إليه عادة على أنه يتوافق مع جنس الشخص.
غالبية المجتمعات الغربية استقرت على التسامح مع التحول الحنسي. لكن أغلبها حدد شروطًا. بريطانيا مثلًا تفرض بلوغ سن الرشد – التشخيص الطبي – العلاجات الهرموني أو التدخل الجراحي لتغيير الجنس – التعهد بالبقاء ضمن الهوية الجنسية الجديدة مدى الحياة.
لكن الحرب الجندرية بدأت من جدال حول نقطة مختلفة: ماذا إن كان الفرد ذكرًا من الناحية البيولوجية والفسيولوجية، لكنه يشعر نفسيًا أنه مولود في جسد لا يخصه. ويشعر بنفسه أنثى (أو أنثى لا ترى نفسها إلا ذكرًا). هذا ما يطلق عليه “الهوية الجندرية”. حيث الجندر كلمة أوسع من الجنس. ونطاقها أوسع من الوظائف الحيوية بل تشمل الهوية التي يقررها الشخص عن نفسه.
بالتالي، يعتبر نشطاء “الحقوق الجندرية” أن من حق الشخص “الذي يعتبر أنه ولد في الجسد الخطأ” أن يختار جنسه بنفسه. يقول: أنا أنثى فيتعامل معه المجتمع كأنثى – بكل ما يترتب على ذلك – حتى لو بقي مظهره ذكرًا، وفق مبدأ التحديد الذاتي للجندر.
التنظير الأكاديمي الذي تستند عليه الحرب الجندرية لم يثر أزمات كبرى، وإن فعل فقد ظلت في أوساط محدودة. لكن مع خروج النظرية إلى التطبيق العملي بدأت الأسئلة الصعبة. مثلًا: حال تخصيص أماكن بعينها للنساء:
هل يدخل حمامات الإناث مثلًا؟
إن ارتكتب جريمة: أين يقضي فترة العقوبة حبسه؟
وعلى أبسط الاحتمالات: في أي نوع من الرياضة يمكن أن يشارك من يصنف نفسه كأنثى. هل يشارك في رياضات النساء؟ الرياضيات السيدات تعتبرن أنفسهن مظلومات إن حدث؛ باعتبار أن “المنافسة الجديدة” ذكر بيولوجيًا، بما يعنيه ذلك من مزايا فسيولوجية وعضلية لا تتمتعن بها.
الحرب الجندرية.. أين موقع رياضة النساء فيها؟
المشكلة الأخرى بدأت مع الجدل حول سن التحديد الذاتي للجندر:
هل يحق للقصر أقل من 18 عامًا اختيار جندرهم؟ أم يجب تأجيل الخيار حتى بلوغ سن الرشد.
تباين التعامل. في 2015، منحت إيرلندا حق الاختيار الذاتي للجندر “حق المواطن في اختيار جنسه بنفسه في البطاقة دون الحاجة لعمليات تحويل جنسي أو الحصول على تصريح طبي”.
تبعتها فرنسا في العام التالي.
بالمقابل، رفضت إيطاليا إقرار حق الاختيار الذاتي للجنس. ثم لحقتها إسبانيا وألمانيا في مايو 2021 بعد معارك برلمانية تبنتها أحزاب اليسار.
الحقوقيون يقولون إن إقرار “الاختيار الذاتي” مهم للمتحولين الذين يواجهون تعنتا يوميًا.
لكن البرلمانيين يقولون إن إجراءً مماثلًا سيسمح للقصر بتغيير الجنس حتى قبل بلوغ سن الرشد، كما يسمح للذكور الذين يعرفون أنفسهم كنساء باللعب في الرياضات النسائية.
بعيدًا عن السياسة.. ماذا يقول العلماء والأطباء في القضية؟
يثور الجدل حاليًا على الأقل حول السن الذي يمكن معه الاختيار الذاتي للجنس.
في مايو 2021، أصدرت مستشفى جامعة كارولينسكا، والتي تضم أكبر عيادة لجنس المراهقين في السويد، إرشادات جديدة تقول إنها أوقفت وصف أدوية الهرمونات للقصر دون 18 عامًا، في تحدٍ مهم للبروتوكولات التي اقترحتها الجمعية المهنية العالمية لصحة المتحولين جنسيًا (WPATH)، والتي تقول إن اختيار الطفل للجندر الذي يرغبه كافٍ لمنحه هذه العلاجات.
في ورقة بحثية في 2015، وجد الطبيب النفسي الفنلندي، ريتاكيرتو كالتالا هينو، أن أكثر من 75٪ من المراهقين المتقدمين لإجراء جراحة تغيير الجنس يحتاجون إلى المساعدة في حل مشكلات نفسية غير اضطراب الهوية الجنسية،
ووجدت ورقة أخرى، نُشرت هذا العام، أن 88٪ بحاجة إلى مثل هذه المساعدة، ولذلك تبنت فنلندا العام الماضي إرشادات صارمة لإعطاء أدوية الهرمونات أو الجراحة.
وكيف يجري التعامل مع القضية في المجتمعات الأكاديمية؟
التعامل مع قضية الحرب الجندرية في الأوساط الأكاديمية جزء من معركة أكبر: بين حرية التعبير وثقافة الإلغاء.
فبينما يروج أكاديميو الهوية الجندرية أن التحديد الذاتي للجنس لا يقل أهمية عن الجنس البيولوجي، وبالتالي يجب احترام حق من يتبنى النظرية في حرية التعبير، يشكو أكاديميون وطلاب من أنهم محرومون من حقهم في التعبير عن الاتجاه المخالف.
في أحدث الأمثلة، كان يفترض أن تشارك جو فينيكس، أستاذ علم الإجرام في الجامعة المفتوحة ببريطانيا، في ندوة في جامعة إسيكس حول وضع النساء المتحولات جنسيًا في سجون النساء، لكن طلاب اليسار حاصروا القاعة متهمين المحاضرة بأن آراءها متطرفة حول الهوية الجنسية، وأنها تعاني من “رهاب التحول الجنسي”، بالتالي ستلقي “خطاب كراهية”، لتلغي الجامعة الندوة وتضيف المتحدثة للقائمة السوداء.
وفي حوادث مشابهة، يفيد طلاب أن بعض الجامعات تتبنى سياسات التحديد الذاتي للجندر، تحركت لعقاب طلابها وفصل أكاديمييها المعترضين دون احترام حقهم في التعبير، وبينها تحويل طالبة للتحقيق لمجرد أنها قالت في ندوة إن “النساء لديهن مهبل، والرجال أقوى”، بالتالي لا يجب أن ينافسن النساء في رياضاتهن، ولا أن يدخلن حماماتهن العامة مثلًا.
وفي فبراير 2021/ أطلقت هولي لوفورد سميث، أستاذة الفلسفة في جامعة ملبورن، موقعًا إلكترونيًا دعا النساء لوصف تجاربهن في مشاركة المرافق المخصصة للإناث فقط ، كالحمامات، مع النساء اللاتي كن ذكورا ولكن حددن أنفسهن ذاتيًا كنساء،
معظم النساء اللاتي شاركن تجاربهن على الموقع الإلكتروني قلن إنهن شعرن بعدم الراحة.
بعدها بوقت قصير، وقع حوالي 100 من زملاء أستاذة الفلسفة خطابًا مفتوحًا يدعي أن الموقع يروج لأيديولوجية ضارة، ودعوا إلى عمل سريع وحاسم ضدها، وتحركت مظاهرتان ضدها في الجامعة.