كان قيصر ألمانيا، فيلهلم الثاني، يرى أن من حق بلاده أن تملك مستعمرات، وتسيطر على ثروات طبيعية كتلك التي تتمتع بها بريطانيا وفرنسا.
وباعتبارهما الخصمين التقليدي لبلاده، سعى لإثارة المتاعب أمام بريطانيا وفرنسا في الشرق الإسلامي الذي كانت أجزاء كبيرة منه تحت استعمار الدولتين.
في 1898، زار فيلهلم الثاني الدولة العثمانية، حيث استقبله السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بحفاوة، ثم انطلق في جولة شملت إسطنبول والقدس ودمشق.. رحلة حذر منها أوتو فون بيسمارك باعتبارها ستثير غضب روسيا.
خلال الرحلة، راح فيلهلم يروج لنفسه باعتباره صديقًا لخليفة المسلمين الذي يقود 300 مليون مسلم حول العالم، وقدم تابوتًا من الرخام هدية لترميم قبر صلاح الدين الأيوبي.
يبدو أن القيصر الألماني شعر بالإعجاب بدين الدولة العثمانية حقًا؛ إذ بعث برسالة لقريبه قيصر روسيا، نيكولاي الثاني، قال له فيها إنه لو كان وصل هناك بدون دين لاختار الإسلام.
من هنا، وبحسب المؤرخ الأمريكي شون مكميكين، ولدت سمعة "الحاج فيلهلم" أو "الحاج محمد فيلهلم"، اللقب الذي أطلقه الأوروبيون على الإمبراطور الألماني سخرية، بينما انتشرت الشائعات في الشرق الإسلامي حول تحول فيلهلم إلى الإسلام حقًا.
زعيم الطائفة الأحمدية بالهند، ميرزا غلام أحمد، الذي كان يدعي أنه المسيح المنتظر، قال حينها إن الله بعث القيصر الألماني ليقضي على المسيحية وينقذ المسلمين؛ لأنه تحدث عن رغبته في التحول للإسلام.
زيارة فيلهلم للدولة العثمانية حملت مصالح اقتصادية أيضًا؛ إذ شهدت الاتفاق على عدة صفقات سلاح ألماني لإسطنبول، وكذلك الاتفاق على خط سكة حديدية يمتد من برلين إلى نمسا والمجر وإسطنبول ثم بغداد والخليج.
كان يفترض أن تمثل تلك الاتفاقات ضربة لروسيا وبريطانيا وفرنسا معًا، إذ يمكن معها تصدير البضائع الألمانية شرقًا بشكل أسرع، بجانب منع التمدد الروسي نحو البحر المتوسط، وضمان سيطرة ألمانيا على النفط الذي يشاع وجوده في العراق.
أثار الأمر قلق العديد من الدول الأوروبية بالطبع، لدرجة أن دويتشه بنك، ممول المشروع، عرض على البريطانيين والفرنسيين والروس المشاركة بحصص صغيرة تضمن وجودهم في الصورة. لكن الأطراف الثلاثة رفضت المشاركة في المشروع الألماني.
بحلول 1904، اكتملت المرحلة الأولى من الخط، ووصل تركيا بالفعل، بما خلق مزيدًا من التوتر مع بريطانيا وفرنسا وروسيا، وكان أحد أسباب التحالف الرسمي بين بريطانيا وفرنسا في 1904، وانضمام روسيا للتحالف في 1907.
على الجانب الأخر، أصبحت العلاقات الألمانية العثمانية أقوى. لدرجة أن دور نشر ألمانية كانت تصدر صحفًا باللغة التركية، مثل صحيفة طنين و ثروت فنون وإقدام.
بالمقابل، تضخمت حصة ألمانيا من التجارة والديون العثمانية لتكون القوة الاقتصادية الأجنبية الثالثة بعد بريطانيا وفرنسا.
المشكلة الحقيقية هنا أن جمعية الاتحاد والترقي التركية أطاحت بعبد الحميد الثاني، صديق الحاج فيلهلم، وكان ضمن عناصرها من يؤيد التحالف مع فرنسا وبريطانيا، لدرجة أن الحكومة التركية الجديدة طلبت الدعم العسكري البريطاني لإخراج الضباط الألمان فوق رتبة كولونيل من تركيا.
حينها، كانت الدولة العثمانية وصلت لدرجة من الضعف لا تملك معها ما يمكن أن تضيفه لألمانيا في التحالف بينهما، بخلاف عدم استقرار الوضع في إسطنبول، وقوة الشراكة في التحالف الفرنسي البريطاني
لذلك، بقي احتمال التحالف العسكري الصريح بين ألمانيا والدولة العثمانية غير محسوم، حتى بعد اغتيال أرشدوق النمسا، الذي مثل الشرارة الأولى للحرب العالمية الأولى.
بحسب الباحث تشارلز دي هالي، في بحثه المنشور عام 1992، فإن أنور باشا وزير الحربية في الاتحاد والترقي ربما عرقل مصالح ألمانيا في البداية، لكنه تحول لتأييد مطلق لألمانياـ لدرجة أنه كان يربي شاربه على نفس نمط شارب القيصر الألماني، الموضة المعروفة بقرن البقرة، وقدم طلبًا يائسًا للتحالف مع ألمانيا، رفضته برلين في 22 يوليو 1914، نفس مصير طلب جمال باشا للتحالف مع فرنسا، وطلب طلعت باشا للتحالف مع بريطانيا.
لكن أخبار محاولات التحالف مع بريطانيا وفرنسا أثارت غضب ألمانيا، حيث قال فيلهلم إن "الوضع اختلف عما كان. وتركيا لا تنوي الالتزام معنا.. إنهم - الأتراك- يعطوننا الكلام فقط ويذهبون للمال الفرنسي الروسي".
بريطانيا كانت تعلم أيضًا أن إسطنبول حاولت التقارب مع ألمانيا، وهنا أقدمت على الخطوة التي قلبت الموقف، عندما استحوذت على السفينتين الحربيتين التركيتين "عثمان الأول" وسمتها "أجينكورت" و"رشيدية" وسمتها "إرين" متعللة بأنها لا يمكنها ترك سفن حديثة تذهب لتركيا التي تتقارب مع ألمانيا.
هنا جاءت الفرصة للقيصر فيلهلم الذي كان مؤيدًا للتحالف مع تركيا من البداية، فقدم هدية سفينتين حربيتين من ألمانيا للدولة العثمانية بدلًا من السفينتين "المخطوفتين" ورفع عليهما العلم العثماني كبادرة حسن نية، ليوقع الطرفان اتفاقية التحالف العسكري في 2 أغسطس 1914.
السؤال المحير الآن: لم كل هذا السعي للتحالف مع دولة عثمانية مريضة لا تملك ما تقدمه في تحالف ذاهب إلى حرب بهذه الشراسة؟
الحل بسيط: القيصر فيلهلم خطط لحملة دعائية دينية ضخمة يقودها الخليفة العثماني بألة إعلامية ألمانية لإعلان الجهاد، بما يحرك ملايين المسلمين للتمرد ضد البريطانيين والفرنسيين والروس.
ما يهم فيلهلم من هذه الخطوة أن يتحول مسرح الحرب العالمية بعيدًا عن أوروبا والأراضي الألمانية، وبينما تنشغل الدول المعادية في قمع التمردات في مستعمراتها تقوم ألمانيا بمهاجمة الأراضي الأوروبية مباشرة بسهولة.
لتسهيل هذه المهمة، كان لدى ألمانيا نسختها الخاصة من لورانس العرب يدعى ماكس فون أوبنهايم.
البارون الألماني سليل أسرة مصرفيين، كان متحمسًا للمشروع، لدرجة المشاركة فيه بثروته الشخصية، كان القنصل الألماني في القاهرة وكان يعمل على لقاء رجال الدين المسلمين وتشجيعهم على الهجوم على البريطانيين.
ومن هناك، ومع اشتعال الحرب، تولى منصب رئيس الاستخبارات الشرقية، وهي المؤسسة التي يصفها شون مكميكين بأنه كان من الأجدر تسميتها بمكتب الجهاد.
بدأ أوبنهايم جولته في الدول الإسلامية من إسطنبول للعراق وحتى أفغانستان لمقابلة المشايخ وإقناعهم أو رشوتهم لإصدار فتاوي مؤيدة للجهاد.
في 14 نوفمبر 1914، أعلنت الدولة العثمانية الجهاد رسميًا. وأصدرت فتوى صريحة تؤيد القتال ضد الكفار، ماعدا ألمانيا والنمسا والمجر، وتحرم القتال ضد الدولة العثمانية باعتبارها دولة الخلافة.
لكن هذه المحاولات لم تلق النجاح المطلوب؛ بسبب الحملة الدعائية البريطانية المضادة التي وصفت الجهاد بأنه مفهوم ينتمي للقرون الوسطى لم تجرؤ الدولة العثمانية على استخدامه نفسها خلال القرن الـ19 إلا قليلًا في حروبها، حتى لا تثير غضب أوروبا كلها ضدها.
هناك أيضًا الدعم البريطاني للثورة العربية التي كان قادتها مثل الشريف حسين يرى أن الدولة العثمانية نفسها متحالفة مع "كفار" على نفس ديانة بريطانيا وفرنسا وأن الفتوى تسمح للأتراك بالتحالف مع غير المسلمين لكنها تحرم العرب من نفس الفرصة.
من جهة أخرى، كانت فرصة الاستقلال عن الحكم العثماني مغرية ولا يمكن تفويتها بالنسبة للدول في المنطقة العربية، لتسقط الدعوة جدواها، وتخرج "الخلافة" مهزومة من الحرب.
الجهاد الألماني التركي – شون مكميكين
أنور باشا العثماني اليائس وألمانيا
الحرب المقدسة .. صنع في ألمانيا – مصطفى أكسكل