التاريخ يكتبه المنتصرون.
العبارة السابقة الشهيرة لا تزال تتردد حتى اليوم بين مؤيد ومعارض. لكن، عندما تتعلق بالأمور بالعامة وبالوعى السائد فعليًا في أي مجتمع، فالتاريخ يكتبه ربما فيلم سينما أو مسلسل تليفزيوني!
كل الوثائق والآثار والإثباتات وكتب المؤرخين لن تسعفك غالبًا في تغيير صورة ذهنية انطبعت في وعي العامة، عن حدث أو شخصية تاريخية، بفضل فيلم ناجح أو مسلسل.
وحيد حامد | أحلام الفتى الكاتب وكوابيس الواقع المصري | حاتم منصور
إذا كنت لا تصدق هذا، جرب أن تقرأ مثلًا ما تذكره كتب التاريخ عن شخصية مثل صلاح الدين الأيوبي، وقارن ذلك بالفيلم الذي أخرجه يوسف شاهين وقام ببطولته أحمد مظهر، وستعرف وقتها أن صلاح الدين والصورة التي يقدمها الفيلم إجمالًا عنه وعن عهده، هي مجرد أكاذيب وخيالات.
ستعرف أيضًا أن ملامح وشكل وقوام صلاح الدين المذكورة في أوصاف كتب التاريخ، لا علاقة تذكر لها نهائيًا بشكل أحمد مظهر (رشيق – طويل.. إلخ من صفات نجوم السينما).
وإذا قرأت أكثر وأكثر عن ملابسات صناعة الفيلم، فستعرف أنه كان جزءًا من بروباجندا عهد الرئيس المصري جمال عبد الناصر، لتمجيد حكمه والترويج لأفكار الوحدة والقومية العربية. وأن اسم الفيلم نفسه – الناصر صلاح الدين – يلعب بوضوح على فكرة التطابق بين الاثنين (عبد الناصر – صلاح الدين).
كل هذا لا يهم اليوم. ما يؤمن به الغالبية بسبب الفيلم، أن صلاح الدين كان عادلًا، وخبيرًا في الكيمياء، وزاهدًا في الحكم.
يمكن تصنيف الفيلم أيضًا كواحد من أكثر الأفلام التي رسخت في أذهان ملايين المصريين والعرب، فكرة أن الحكم الإسلامي وزمن الخلافة، كانا عهد العدالة، وباب الأمجاد الذي يجب أن نعود اليه.
الاختيار بين مصر الوطن ومصر الولاية .. الدراما المصرية و الإرشاد | محمد زكي الشيمي
مفارقة طريفة فعلًا عن عهد لم يكن مسموحًا فيه للمصري بالمشاركة في جيش. أو بصياغة أكثر بساطة ومباشرة: عن عهد كان المصريون فيه تحت احتلال جيش صلاح الدين. لكن الفيلم يعلمنا – ويا للهراء – أن المسيحي المصري نفسه كان موضع ترحيب في هذا الجيش، وغير معرض لأي اضطهاد أو إقصاء (شخصية عيسى العوام).
المقدمة السابقة ضرورية كمدخل، للتذكير بأن تأثير الأفلام والمسلسلات التاريخية على الوعى العام يفوق خيالات كثيرين، وأنه يزداد فاعلية في مجتمعات لا تُقبل أصلًا على بدائل مثل القراءة، ولا ترحب بسماع أي صوت معارض للغالبية، وهو حال مجتمعات الشرق الأوسط.
مؤخرًا، أثار إعلان مسلسل الملك المقتبس من قصة كفاح طيبة التي كتبها الراحل نجيب محفوظ عن الملك المصري أحمس، الكثير من الجدل، بسبب الملاحظات عن مستوى الدقة التاريخية في هيئة الممثلين والملابس والديكورات وخلافه.
لن أكرر هنا نفس المحتوى الخاص بهذه الانتقادات؛ لانه محتوى قابلك غالبًا كقارئ عشرات المرات على السوشال ميديا من ناحية. ولأنني أيضًا غير مصنف كخبير فيما يخص الحضارة المصرية القديمة، للقيام بهذه المهمة بشكل مثالي من ناحية أخرى.
ألغاز تراثية (6) – كلب أصحاب الكهف.. هل كان أنوبيس عند المصريين القدماء؟ | هاني عمارة
المهم أن الجدل فتح الباب لنقاش أكبر من المسلسل نفسه، ولسؤال مهم: إلى أى مدى يجب الالتزام بالدقة التاريخية في الأفلام والمسلسلات؟.. وفي أي الحالات يمكن توجيه اتهامات أخلاقية لصناع الفن عند إهمالها؟
الإجابة ليست سهلة، ومتعلقة بتأثير عدم مراعاة الدقة التاريخية:
1- هل كانت مجرد جزء وتفصيلة من سرد درامي، أو شكل بصري أراده صناع عمل ما، وليس لهما تأثير ضار فعليًا؟
2- خطأ فادح وإهمال استفزازي، يحطم مصداقية العمل أمام غالبية المشاهدين؟
3- جزء من عملية غسيل وعى ممنهجة، وغير أمينة، وتستدعي الإدانة؟
بالعودة للمثال الذي بدأنا به (فيلم صلاح الدين)، يمكن القول أن مخالفة شكل أحمد مظهر للشكل الفعلي المذكور عن أوصاف صلاح الدين ليست مشكلة.
المخالفة مقبولة فنيًا؛ لأننا كمشاهدين لا نعلم شكل صلاح الدين، وهي معادلة مختلفة مقارنة بأعمال أخرى متعلقة بمشاهير نعرف شكلهم وصوتهم وهيئتهم جيدًا، مثل السادات وأم كلثوم ومحمد علي كلاي وفريدي ميركوري.. إلخ.
رامي مالك يعزف منفردًا في Bohemian Rhapsody
في الفرضية السابقة – تغيير الشكل تمامًا عما نعرفه – يصبح القرار خطأ؛ لأنه ببساطة يحطم جزءًا من لعبة الإقناع والإيهام المطلوبة بين صناع العمل الفني والمتفرج (دعني أخدعك – حسنًا أنا أريدك أن تخدعني).
هناك حد أدنى مطلوب من المصداقية حتى بخصوص الشخصيات التي لا نعرف شكلها. صلاح الدين ينتمي لمنطقة وأعراق محددة، وأحمد مظهر لا يخالف ذلك. لكن لا يمكن مثلًا استخدام ممثل بملامح آسيوية على غرار جيت لي في الدور، بحجة أننا لا نعلم شكل صلاح الدين.
الملاحظة الأخيرة يمكن ربطها بهراء فني عالمي معاصر من حيث الدقة التاريخية، أنتجته مصانع اليسار وتيارات الصوابية السياسية، وبسببه، أصبح من الوارد أن نشاهد فتاة أفريقية سمراء في دور ملكة من ملكات إنجلترا!
شخصيًا لا أعرف شكل وأوصاف أغلب ملكات إنجلترا السابقات، لكن بالتأكيد فرصة إقناعي بدور كهذا مع ممثلة بيضاء أوروبية الملامح، مثل أوليفيا كولمان في فيلم مثل The Favourite تفوق احتمالية إقناعي به مع ممثلة تخالف شكلًا تمامًا أبسط ما نعرفه جميعًا ويذكره التاريخ عن شكل ملوك وملكات إنجلترا، من حيث العرق واللون.
البعض يفضلونها نسوية في The Favourite | حاتم منصور | دقائق.نت
لا مانع إذن بخصوص اختلاف شكل صلاح الدين، لكن يصعب قبول حجم تزييف الحقائق والتاريخ عمدًا. هذا فيلم ساهم في تشويه وعي ملايين خلال فترة الطفولة، ولا يزال للأسف يؤدي هذه المهمة بنجاح. والغرض من وجوده أصلًا هو هذا الهدف.
قد تجدر الإشارة هنا لفيلمين من أشهر وأنجح ما أنتجت هوليوود في هذا المجال، وهما القلب الشجاع (1995) والمصارع (2000). كلاهما حصد أوسكار أفضل فيلم، وحقق نجاحًا جماهيريًا ضخمًا. لكن، ماذا عن مستوى الدقة التاريخية؟
يستند القلب الشجاع إلى شخصية حقيقية وهي الأسكتلندي ويليام والاس، لكنه يقدمه بصورة مثالية، ويضيف أحداثًا ووقائع غير حقيقية تاريخيًا لخدمة الدراما، كقصة الحب بينه وبين الأميرة ايزابيل (تلعب دورها صوفي مارسو).
هل أضافت هذه التغييرات متعة للفيلم؟ الإجابة نعم غالبًا.
هل نتج عنها وعي زائف، أو أضرار مجتمعية ما على غرار تزييف التاريخ في فيلم الناصر صلاح الدين؟ الإجابة المرجحة عندي لا، لكن ربما للإنجليز إجابة أخرى!
عصر هوليوود الذهبي لم يصدأ بعد: 5 مفاهيم مغلوطة (جزء 1) | أمجد جمال | دقائق.نت
المصارع، في المقابل، يختلق حبكته بناء على بعض الأحداث والشخصيات التاريخية الحقيقية، لتقديم فيلم أكشن يمزج بين فخامة كلاسيكيات هوليوود التاريخية في الخمسينيات مثل (بن هور – سبارتكوس)، وألاعيب هوليوود الأحدث مثل خدع الجرافيك.
هل من الضروري الالتزام بدقة تاريخية، فيما يخص شخصية غير شهيرة أو مهمة تاريخيًا أصلًا مثل الجنرال كومودوس؟ هل تصميم الملابس والديكورات والأسلحة وخلافه مطابق لزمن الأحداث بشكل دقيق؟ أم أنه تصميم يواكبها لكنه متحرر نسبيًا، لتقديم طابع بصري وسينمائي، أكثر إثارة وفخامة للشخصيات والمكان والمعارك؟
هذه أسئلة لم أهتم بها كثيرًا وأنا أستمتع بالفيلم مرة بعد مرة مع ملايين المتفرجين. صناع المصارع لم يدعوا أنه قصة حقيقية، ومخالفاته بخصوص الدقة التاريخية، لم ينتج عنها عائق أمام الاستمتاع، ولم تتسبب في أضرار أو تزييف وعي أو خلافه.
بصياغة أخرى: لا أملك أي سهام إدانة فنية أو أخلاقية لصناع المصارع، بسبب الدقة التاريخية، وغير مهتم بنقاشات من نوعية: ما هو الحجم التاريخي الفعلي لساحة القتال ولمدرجات المشاهدة؟ وما هو الشكل الدقيق للرمح في الجيوش الرومانية زمن الأحداث؟
في عيده الـ 20.. كيف غير “المصارع” هوليوود للأبد؟ | حاتم منصور
ينقلنا هذا لأسئلة مثل: هل تعرف كمتفرج الفرق بين تاج الأسرة الفرعونية الثالثة، وتاج الأسرة الفرعونية السابعة؟ هل يمكنك تمييز شكل الخنجر الفرعوني؟
وإذا كانت الإجابة السائدة لدى أغلبنا هي (لا)، هل يجب لوم صناع مسلسل أو فيلم تدور أحداثه في أزمنة المصريين القدماء، على اختيار الشكل الذي يعتبرونه أنسب سينمائيًا أو أكثر اثارة وفخامة بصريًا فيما سبق، بعيدًا عن نقطة الدقة التاريخية؟ وهل يوجد ضرر ناتج عن ذلك؟
الحالة المعاكسة تستحق الذكر أيضًا. إذا كان أغلبنا يعرف أن ملوك مصر القدماء، كانوا حليقي الرؤوس بالأساس، لأنهم اعتبروا ذلك من علامات النظافة الضرورية، هل يمكن التسامح مع عمل يصمم على العكس، ليمنح أبطاله شكلا أقرب للمعتاد؟ أم أن هذا سيمثل عائقًا مرفوضا بخصوص التفاعل مع الشخصيات، ومصداقية زمن الأحداث؟
وإذا كنا نتقبل كمتفرجين في لعبة المشاهدة والإيهام (دعني أخدعك – حسنًا أنا أريدك أن تخدعني)، مخالفات تاريخية أكبر بانتظام في الأفلام والمسلسلات، مثل استخدام الممثلين للغة نفهمها، ومختلفة تمامًا عن لغة زمان ومكان الأحداث، فهل من الضروري التمسك بقيود عديدة باسم الدقة التاريخية، أم أن المرونة الأكبر أفضل؟
الإجابات على الأسئلة السابقة ليست مطلقة وبطريقة أبيض/ أسود، وربما ستختلف تفضيلاتنا. لكن غالبًا يمكننا أن نتفق أن أساسيات الاستمتاع بأي عمل، هي قصة مكتوبة بإحكام، ومشاهد متقنة على الشاشة، وطاقم تمثيلي يتقن مهنته. وللأسف وبسبب معطيات كثيرة، أصبح ما سبق مواصفات نادرة في أعمالنا.
ما سر رداءة مسلسلات رمضان ولماذا ستظل كذلك؟ | حاتم منصور
قد تكون القرارات هنا، أقرب لأجواء الاستخفاف بالمتفرج. وقد تكون نقاشات الدقة التاريخية من منطلق فني غير موجودة أصلًا، ويحل محلها فرمان سريع من استايلست نجمة، يرى أن اللون الأجمل لشعرها لا يمكن تغييره، تحت مبرر يعتبره هو وهيًا تافه، من نوعية زمن ومكان الأحداث!
بقى أن أذكر أن هناك جزءا آخر قادما من المقال، عن نقطة أخرى مهمة متعلقة بالدقة التاريخية، كان من الصعب إضافتها وتفصيلها هنا بسبب المساحة.