مارَس البشر نشاط الرقص منذ آلاف السنين.
وثّق باحثون رسمة لرقصة زوجية نفّذها رجل وامرأة في النمسا، تعود إلى 3 آلاف مضت.
ليست هي الرسمة الوحيدة، وإنما توجد العشرات غيرها تعود للماضي السحيق على جدران كهوف إسبانيا وفرنسا.
أغلب الحضارات الإنسانية القديمة، في مصر واليونان وروما، عرفت الرقص ومارسته بشكلٍ مُنتظم.
اختلفت دوافع رغبة هذه الحضارات في الرقص؛ البعض عدَّه أحد أشكال الطقوس الدينية، أو وسيلة لممارسة السحر.
ما هي علاقة الإنسان القديم بالرقص؟ ولماذا حرص على اتقانه؟
وفقًا لجداريات المعابد، عرف الفراعنة ما يُمكننا تسميته "الرقص المُقدّس".
اعتُبرت هذه الرقصات طقوسًا رسمية تُقام ضمن الاحتفالات الدينية بقيادة الكاهن شخصيًا، وبالاستعانة براقصين مُدرّبين بعناية، معتبرين أنه سيحقق لهم علاقة أوثق بالإله
اعتمدت هذه الرقصات على حركات فنية رشيقة، ارتدى العارضون خلال أدائها القليل من الملابس. نُقشت بعض هذه الرقصات على جدران المقابر للترفيه عن الموتى مثلما رفّهت سابقًا عن الأحياء.
انتشر على نطاقٍ واسع بين كافة طبقات المجتمع العليا والدنيا، وهناك بعض الإشارات إلى أن الملك بنفسه شارك في عددٍ من الرقصات.
تزامنت مع الموسيقى التي أتقن المصريون تسخيرها لصالح رقصاتهم؛ فعرفوا القرع على الطبول والدفوف والأجراس، والنفخ في الناي والمزمار والبوق، التي كانت تعزف في االمناسبات الكبرى، مثلما كانت تُعزف للعمال خلال بناء الهرم، وكأنهم يتسلّون بالراديو.
كما تُحدّثنا البرديات أن أثرياء المصريين القدماء استوردوا راقصين أفريقيين لتقديم عروض تسلية لهم خلال ساعات الفراغ.
تأثر الرقص اليوناني بالفن المصري، لأسبابٍ مختلفة.
منها، الاتصال الذي نشأ بين الحضارتين عبر جزيرة تكريت، والفلاسفة اليونان الذين درسوا في مصر، وعلى رأسهم أفلاطون.
تحدّث أفلاطون عن الرقصات المصرية التي "تعزز جمال الجسد" بدلاً من غيرها من "الحركات الغريبة التي تُخلق حالة من القُبح".
تمامًا مثل الحالة المصرية، عرف التكريتيون رقصات دينية تؤدى لعبادة الآلهة القديمة، تطورّ فيما بعد إلى "رقصات حربية" يؤدّيها المقاتلون خلال التدريبات كوسيلة لرفع لياقتهم البدنية.
انتقلت هذه الرقصات جميعها إلى اليونان، اشتهرت مدينة سبارتا بـ"الرقص الحربي"، كما عرفت أثينا رقصاتٍ مخصصة لتكريم الإله أبولو.
اعتبر فلاسفة اليونان الكبار أن الرقص وسيلة لتنشئة "المواطن الصالح"، لذا تم تدريسه في المدارس كمهارة مستقلة، وصار له مكانة هامة في المجتمع.
أصبح للرقص حضورًا كبيرًا في الحياة اليومية؛ رقصوا في حفلات الزفاف والحفلات الجماعية، بشكلٍ جماعي وفردي لإضفاء المرح على المناسبات، أو كأحد أشكال الكرنفالات الاحتفالية.
بعض الرقصات الدينية اتخذت طابعًا اجتماعيًا، فأصبح المزارعون يقومون برقصة تبجيل لإله الخمر ديونيسوس، داخل الحقول، في وقت حصاد العنب.
كما استخدمت المسارح اليونانية هذه الرقصات لتسلية الجمهور، فوقف الراقصون على خشبية المسرح يقدّمون استعراضات خلال فترة الفواصل.
هذه الاستعراضات حملت في البداية طابع الهواية المكتفي بالاستعراض، لكن بمرور الوقت تطورت وأصبح لها أبعاد درامية تُناقش قصص الأبطال المأخوذة من الإلياذة. بعض هذه الحركات الراقصة لا تزال تؤدّى حتى اليوم في التجمّعات الفنية اليونانية.
قبل الرومان، سكن إيطاليا شعوب قديمة عُرفت بِاسم "الأتروسكان"، لا نعرف عنهم الكثير إلا أنهم عاشوا في المنطقة الواقعة من شمال روما حتى فلورنسا.
توضح الرسوم على مقابرهم أنهم عشقوا الرقص. وتعددت النقوش التي وصلتنا عن مجموعات نساء يمارسن الرقص المفعم بالحيوية.
ربما تأثروا في بعضها باليونانيين، الذين ربطتهم بهم علاقة وثيقة، لكن لا يوجد دليل دامغ على ذلك.
من بعدهم، ناصَب الرومان الرقص العداء، ولم يتحمّسوا لظهوره في أرجاء مملكتهم.
اعتبر النبلاء الرومان أن الأشخاص الذين يرقصون "مشبوهون، ومخنثون"، فيما قال السياسي والأديب الروماني الشهير شيشرون، إن الرجل الذي يرقص "مجنون".
لم يمنع هذا من إقبال الرومان على الرقص، بشكلٍ عفوي غير نظامي، وسرّي في بعض الأحيان.
اعتاد الفلاحون إقامة مواكب كورالية تنظمها القرى بعيدة عن أعين روما، أقاموا فيها رقصات استعراضية ورقصات بالأسلحة.
وعندما افتتحت مدرسة رقص أبوابها تدفّق عليها أبناء وبنات الأرستقراطيين الرومان، ما أغضب الإمبراطور فأمر بإغلاق جميع مدارس الرقص.
وفي عهد الإمبراطور أغسطس، عرف الرومان نوعًا من "الرقص الصامت"، هو البانتوميم، والذي يرتدي فيه العارض قناعًا يخفي ملامح وجهه، ويقوم بإيقاعات بطيئة تتواءم مع موسيقى تُعزف خلفه.
حقق هذا الفن شعبية هائلة في الإمبراطورية الرومانية، وكان أصحابه قادرين على تحقيق ثروة ضخمة من كثرة الإقبال على عروضهم.
الرقص الغربي (بريتانيكا)
الموسيقى والرقص في مصر القديمة (وورلد هيستوري)
الرقص في اليونان القديمة (jstor)