باحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي
في موسم حج 1987، وقعت أحداث دامية في مكة راح ضحيتها المئات، معظمهم من الحجاج الإيرانيين ورجال الأمن السعوديين.
بدأت الأحداث بمظاهرات كبيرة، وهتافات ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، مع لمز الحكومات العربية بالعمالة لهما، ووصور روح الله الخميني، في أفعال بدت استفزازية لبقية الحجاج المختلفين مع التوجيه السياسي والمظهر الطائفي، لتبدأ مناوشات تخللتها أعمال تخريب وفوضى، تطورت لاشتباكات دامية بين الحجاج الإيرانيين والأمن السعودي، قُتل فيها المئات من الطرفين، مع بعض الحجاج من الجنسيات الأخرى، وعلى إثرها، منعت إيران بعدها من إيفاد الحجاج إلى السعودية لثلاثة مواسم.
حين اندلعت الثورة الخمينية في إيران وسيطر رجال الدين الشيعة على السلطة، أصدر روح الله الخميني بعدها بعدة سنوات، وتحديدًا في موسم حج 1983، بيانًا إلى حجاج بيت اللّه الحرام، دعا فيه إلى تلاوة سورة التوبة. وقال لأتباعه إن الله أمر بتلاوتها في اجتماع المسلمين العام في مكة بآية: “وَأذان مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكبر أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ”، معتبرًا أن “إعلان البراءة من المشركين في موسم الحج هذا إعلان سياسي عبادي أمر به رسول اللّه”.
مرشد الثورة قرر إذن أن هناك أمرًا منسيًا في الدين يتعلق بإعلان البراءة من المشركين في الحج. وقرر أنها شعيرة من شعائر الحج فرط فيها المسلمون، فدعاهم إلى ضرورة إحياء ما يسمى بـ “مظاهرات البراءة”، والتي تحولت منذ هذا الإعلان لدى الشيعة المرتبطين مرجعيًا بالنظام الايراني إلى أحد شعائر الحج تتضمن وجوب التظاهر وترديد الهتافات المعادية لإسرائيل وأمريكا، وحكام دول العربية.
حتى أعلن المرشد الحالي علي خامنئي في أحد خطاباته أن “الحج من دون إعلان البراءة ليس مقبولًا”.
الأصل الذي اعتمد عليه روح الله الخميني في تبريره كان مطلع سورة التوبة المتعلق ببراءة الله ورسوله من المشركين، فما هي قصة الآية؟
بعد فتح مكة، ورغم سيطرة المسلمين عليها، إلا أن العهود القائمة مع عدة قبائل من المشركين كانت تقضي بعدم منعهم من الحج. لذلك ورد في سبب نزول الآية أن الرسول وبسبب عدم التزام بعض المشركين بالعهد، قرر إعلان انقضاء عهودهم، مع منح من لم ينقض العهد مهلة أربعة أشهر، يكون الحج بعدها خالصًا للمسلمين فقط، ويمنع المشركون من الحج فيما سمي بـ “إعلان البراءة”؛ أي إخلاء العهد من أي اتفاق أو التزام جهة أي طرف. وقرر أن يكون الإعلان في يوم النحر بمنى، وهو يوم الحج الأكبر.
وهنا تختلف الروايات. ورد أن النبي محمد أرسل أبا بكر الصديق لإعلان البراءة، فيما نقلت روايات أخرى إعلان البراءة إلى علي بن أبي طالب، فتقول إن النبي كلف أبا بكر فعلًا، لكنه استبدل به عليا لاحقًا، وهي الرواية المعتمدة لدى الشيعة؛ لأنها يمكن أن تُؤوَّل في أحقية علي بن أبي طالب بالخلافة.
وبحسب الروايات، تتضمن بنود إعلان البراءة نقطتين في رواية إعلان أبي بكر: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. أما في رواية إعلان علي، فتضيف نقطتين أخريين: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته.
وبرغم ورود القصة ذاتها عند السنة والشيعة في تفسير أمر إعلان البراءة القرآني من المشركين في الحج، إلا أن الكل لم يتوقف عندها كثيرًا، ولم يعتبرها أي من المذاهب الإسلامية عند السنة أو الشيعة من طقوس الحج، باعتبارها مسألة تاريخية تتعلق بتوحيد الحج نزل الوحي بها مرة، وانتهى الأمر على هذا الوضع.
القدس والمسجد الأقصى بين التدوين الشيعي والدعاية السياسية | هاني عمارة
لماذا ابتدع الخميني مظاهرات البراءة في الحج إذن وخرج عن اعتبار إعلان البراءة أمرًا تاريخيًا انقضى بإعلانه لأول وآخر مرة، فحوله إلى طقس تعبدي كما صرح في بيانه الأول، ثم أصر عليه النظام الإيراني وفروعه الخارجية من بعده؟
الجواب هو ما أعلن عنه عقب الثورة الإيرانية مباشرة فيما يتعلق بـ “تصدير الثورة“. ولما كان الحج أهم موسم جماعي لدى المسلمين، فإنه أكبر فرصة يمكن استغلالها للدعاية للنظام الإيراني وتطبيق فلسفته في تصدير ثورته.
اولًا: أمر الخميني في 1982 بإنشاء منظمة الحج والزيارة لتتبع وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، وعهد إليها بمهام:
1- تجهيز الدعاية الإعلامية وأدبيات الثورة الإيرانية وصياغة الشعارات السياسية وتجهيز اللافتات التي ترفع في موسم الحج.
2- إعداد وتدريب لجنة الحج تحت إشراف وقيادة ممثل الولي الفقيه في الحملة، والتركيز على أن الجانب السياسي تنفيذ لأمر ووصايا الخميني؛ واعتبار التقيد بهذا الجانب من أهم أركان وواجبات هذه الفريضة.
3- إلزام جميع حجيج إيران بإيصال رسالة الجمهورية الإسلامية إلى كافة الحجاج في مكة.
ثانيًا: أصدر بيانًا إلى الحجاج شرع فيه مظاهرات البراءة واعتبرها طقسًا تعبديًا مهمًا ضمن طقوس الحج.
1 – براءة الرسول كانت إنهاء لاتفاق مسبق على حج مشترك بين المسلمين وغيرهم، أما البراءة الخمينية فهي البراءة من الكفار بالمفهوم الاعتقادي الذي يحرم موالاة غير المسلم والتعامل معه.
2 – عمل الرسول لم يكن فعلًا جماهيريًا شعبويًا، بل إعلانًا رسميًا من جهة الحاكم.
3 – براءة الرسول كانت مع طرف كافر يجمعه بالمسلمين قاسم مشترك وهو الحج. أما براءة الخميني فليس فيها قاسم مشترك مع المتبرأ منهم؛ إذ لا تشارك أمريكا وإسرائيل في موسم بالحج. ليصبح الأثر الفعلي لتلك المظاهرات التي تتخللها شعارات طائفية موجه مباشرة للمستضيف “السعودية” والحجاج من غير الشيعة، مع استخدام أوصاف تحريضية مثل المنافقين أو العملاء بمعناها التاريخي أو إسقاطها المعاصر.