الحديث تصاعد في الأسابيع الأخيرة عن مشكلة الزيادة السكانية، وما ينبني عليها من مخاطر، وبحث الحلول الممكنة للتعامل مع الأزمة، مما استلزم إعادة مناقشة فكرة تحديد النسل أو ما روج له اصطلاحًا “تنظيم النسل”.
والفارق بين تحديد النسل وتنظيمه أثار جدلًا قديما متجددًا، لم يكن يمثل قضية مهمة كما روَّج، بقدر ما كان إحدى الحيل، الهادفة لإلهاء الجماهير والسياسيين في تفرعات سطحية، تزرع بالجماهير الشك في مرامي دعوات تنظيم الأسرة من جهة، ولكي يتضخم حجم الجماهير ونفقاتها ومشكلاتها المتراكمة من جهة أخرى، كهدف غير خفي لأنصار الصحوة الإسلامية.
أثمر هذا التردد عن تأخر التعامل الحاسم مع مشكلة الزيادة السكانية، لقرابة أربعة عقود تضاعف خلالها عدد السكان مرة ونصف، بزيادة تفوق ستين مليون نسمة، مع تفاقم المشكلات بما لا يقاس!
هل تصل مصر إلى الخطوة الأولى في الإصلاح الاقتصادي؟ الإجابة في فيديو جيم | خالد البري
الصفحة الرسمية لوزارة الأوقاف عبر فيسبوك تصدت لقضية تحديد النسل عبر شروحات مبسطة بديهية. لكن محصلة التعليقات على منشورات الوزارة حملت هجومًا شديدًا واتهامًا بالتسييس والتفريط فى الدين، موجهةً للوزارة أبشع التهم والسباب!
تلك التعليقات، على حماقة منطقها، نتاج طبيعي لمسعى تحويل المتلقي لـ “ترانزستور دعوي” طوال العقود السابقة، يتبارى عبره باستعراض توافه الآراء وأكثرها ابتذالًا، المقتبسة من خطب مشاهير التطرف!
حتى صار يزايد في الدين على رجال الدين أنفسهم!
ويتضح في كثير من التعليقات تلميحات بكون الإرادة السياسية، هي المحركة لما تعلنه الوزارة، وأن الدين كما يرونه يجب أن يكون في تضاد مع الحاكم ومع مصالح الدول، وأن يتجه مشايخ الإفتاء لمناهضة سياسة الدولة حتى يتحقق الدين،
وهو الرأي الناتج أيضًا عن ترسيخ دعوي، عبر سرد قصصي متكرر من الدعاة عن الوقوف في وجه سلطان جائر، إلخ. حولته تلك القصص لمناضل وهمي متحمس لخيالات قصصية، لا يرى في الدين سوى صراعات واجبة مؤجلة.
والفرد المنتفض هنا ضد تحديد النسل ربما لا يتحمل دقائق زحام وضجيج وتلوث في ميدان رمسيس، فيلعن ويسب وقف الحال، ثم يعود ليلغي منطقه العقلي تمامًا، إذا ما وجهه داعيته إلى تكديس الميادين بمزيد من العابرين!
ثم يطلق لك الحل السهل: الأرض براح، عمِّروها وأسكنوا فيها نسلنا المتزايد. فإذا ما شاهد بنفسه تكلفة تعميرها، استنكر باستخفاف: لماذا تنفقون هذه المبالغ في مدن لا طائل منها؟!
والحق أن التجربة وتحمل المسؤولية هي خير كاشف لمصداقية الآراء، فالتجربة الإسلامية التي روجت لزيادة السكان، تمثلت وقت الدعاية الانتخابية 2012، بتصريح محمد مرسي بأنه يرحب بالزيادة السكانية، باعتبارها ثروة قومية،
مؤكدًا أن العالم يفرح بزيادة عدد السكان، وأن الله موكل بالرزق للجميع، وعليه فسيطعم هذه الزيادات. ثم ربط شرط الرزق بالتقوى، حتى يصبح الرزق مسئولية الفرد نفسه وليس الله!
وبعد الانتخابات، صرح وزير الري فى حكومة هشام قنديل: أن مصر دخلت في مرحلة الفقر المائي، وذكر أن النمو السكاني من مسببات الأزمة.
هذا كلام لا يقال إلا وقت المسؤولية!
لماذا تغيب الرثاثة عن النوبة .. ونراها في القاهرة وبيروت؟ | خالد البري | رواية صحفية في دقائق
المؤكد أن جدالات الفترة الحالية، تؤكد أن التعاطي الديني هو العامل المؤثر الأبرز في تأخير التعامل مع تلك المشكلة، بعد إقناع الجماهير لعقود أن الحل ماسٌ بعقيدتهم مستهدف لهم!
والحقيقة أن التوصيف المعلن للحل بعبارة “تنظيم النسل” لا يمثل حلًا مستدامًا؛ لأن المطلوب تحديد النسل: اكتفاء الأسرة بإنجاب محدد للأطفال تتوقف بعده عن الإنجاب، بحيث تصبح الدولة في حالة سيطرة إدارية نحو أعداد محددة يتناسب فيها أعداد المواليد مع الوفيات، بما تستطيع معه تنظيم إداراتها للموارد والأفراد. وليس أن يصبح الأمر سباقًا مستمرًا بين الإدارة والمواطنين.
فالمشكلة ليست في تنظيم الإنجاب بفواصل زمنية محددة، فتلك فكرة بدهية لا تحتاج لفتوى.. لكن الزوجة إذا اتبعت تلك الفكرة، يمكنها أن تنجب فى النهاية خمسة أو سبعة أطفال أيضًا، وبالتالي سننتهي لنفس المحصلة وتستمر المشكلة.
سعر الحياة الحلوة | خالد البري | رواية صحفية في دقائق
كما أن ربط فكرة الإنجاب بالقدرة على الإنفاق فقط لم تعد صالحة في مجتمع وصل حافة التكدس، وهي فكرة تروج للخلاص الفردي، في ظل مجتمع معقد ومتسع ومتشابك، لا يمكنك أن تعيش فيه بثروتك بمعزل عن الخدمات العامة ومجمعات السكن وحسابات ندرة الموارد!
فبافتراض أن المجتمع أغلبه متيسر الحال، وأنجب كل فرد ما شاء، فماذا عن أمر المساحة الصالحة للعيش ومحدودية الموارد والتكدس والتلوث البيئي؟!
ماذا عن حق الإنسان في البراح والهواء النقي المساحات الخضراء والبعد عن كتل الأسمنت وتراص المباني؟
ما الحكمة من الطغيان على الموارد لإفنائها سريعًا؟
ما زالت الأفكار الحاكمة لتلك القضية ضيقة وشديدة الأنانية والبدائية، فلو دعا الجراد لفكرة تخدمه، لن تخرج بأسوأ مما سبق!
كما أن الدعوة دائمًا ما تنحاز للجماعة على الفرد، إلا أنها بهذه القضية تنحاز للخلاص الفردي، وتجاهل الصالح العام تمامًا، متجاوزة إدارة الدولة لشؤونها، دافعة بالمواطن أن يملأ الأرض نسلًا أيًا كانت العواقب، مبرزة مصلحة الفرد على حساب الإضرار بالمجموع!
ستكونين أنت الحذاء.. أزمة الاقتصاد المصري في أغنية المهندس حسام | رواية صحفية في دقائق
تتوجه الدعوة بالمشكلة رأسيًا من الأرض للسماء، عامدة إبعاد الناس عن جوهر الحل ببعده الأفقي الأرضي.
ولا أدري أي حاجة لنا للعودة خمسة عشر قرنًا، لإيجاد حلول تتعلق بالانفجار السكاني بزمن مختلف لم يعاصر أزمات مشابهة؟! ولا حاجة معلومة لنا لأن نبحث بالروايات القديمة، عمن كان يعزل في جماعِه ومن كان يستكمل.
ما علاقة أزمتنا اليوم بها بالأساس؟ وما العائد من شغل تفكيرنا بهذه القصص؟!
الكارثة الدعوية جعلت الأفراد يتجاهلون تحذيرات العلم، فلا قيمة مثلًا لنظرية مالتوس “قدرة الإنسان على التكاثر أعظم من قدرة الأرض على إنتاج محاصيل الغذاء” لكنهم يذهبون لتوجيهات تفتقر لأي منطق، تخبرهم بأنهم إن ازدحموا وتكدسوا سيخرج لهم الخير من العدم! وبعضهم يخبرنا أن الحل يأتي بالغزو والاستيلاء على مقدرات الغير!
ترتكز الدعوة على شحن المواطن ضد مصلحته الشخصية، وضد سلامه النفسي وضد صالح وطنه.
أولئك هم الرابحون .. كيف يتفاعل الاقتصاد ونفسية المجتمع | خالد البري | رواية صحفية في دقائق
الدعوة هنا معزولة عن الأرض ذاتها، لا تدري خارج محفوظاتها شيئًا، لا رابط بينها وبين واقع الحياة؛ فالزيادة السكانية استنزاف لموارد الأرض، والأمراض تتنوع وتنتشر بزيادة وتكدس السكان، وقدرة الأرض على تحليل نفايات البشر أقل من معدل زيادتهم، كما أنه بزيادة أعداد البشر تزداد مخلفات استهلاك الطاقة، بما يضر بالإنسان نفسه.
لنترك نحن كل التحذيرات العلمية والبديهية، ونتوجه لهلاوس تخبرنا: بأن هذا الضرر اللاحق بنا خير، وأن علينا أن نزداد للأبد دون توقف!
يذكر الدكتور عبد المنعم مصطفى في كتابه “الانفجار السكاني والاحتباس الحراري” إنه عندما يبدأ التدهور، فإن النمو السكاني السريع والتدهور البيئي يغذى كل منهما الآخر، الأمر الذي يؤدي إلى حدوث تصدع اجتماعي، وظهور مشكلات عديدة فى البيئة ناتجة عن نقص ملموس في تفهم العلاقة بين النمو السكاني والصراع الاجتماعي.
فالسكان الذين يزيدون بسرعة رهيبة في الدول النامية، يتنافسون على قاعدة مصادر ثابتة أو آخذة فى النقصان ومعرضة للتدهور. كما أن الأمراض تكاد تكون ملازمة لسكان الدول الفقيرة، فالملاريا تنتشر فى دول أفريقية كثيرة لتقضي على أعداد كبيرة من الناس، وتنتشر الكوليرا فى الهند مسببة موت كثير من الفقراء، ومن المعروف أن مضاعفات المرض تكون أكبر وأخطر عند الجائع”.
خطايا حسني مبارك السبع.. دروس للمستقبل من الماضي القريب | هاني عمارة