العلاقة الغرامية الملتهبة والحياة الزوجية المثالية لسنوات وسنوات، ثم المشكلات والخلافات فالطلاق والصراعات في المحاكم على حضانة الأطفال وخلافه.. قصة حزينة متكررة حاليًا، ومعدلاتها دومًا في ازدياد عالميًا في مختلف الثقافات والمجتمعات.
في فيلم قصة زواج Marriage Story يحاول المؤلف والمخرج الأمريكي نواه باومباك فك شفرة هذه التغييرات التي تطرأ على زواج وحياة ملايين البشر، بمساعدة سكارليت جوهانسون وآدم درايفر في دوري البطولة، والطريقة التي يرى بها الطلاق أقرب لمنظور رومانسي منها لأي منظور آخر، ولهذا قرر غالبًا أن يبدأ فيلمه بمشهد أقرب لأفلام الكوميديا الرومانسية.
بعض التفاصيل لاحقًا تحمل وبوضوح بصمات من أفلام وودي آلان، والسينما الأوروبية، لكن يظل الفيلم إجمالًا محافظًا على طابعه البسيط من حيث السرد أو الصورة.
هذه هي الزيارة الثانية لباومباك عن الطلاق، بعد فيلم سابق عام 2005 بعنوان الحبار والحوت The Squid and the Whale وفيه يحكي قصة طلاق من منظور أطفال الأسرة، لكنه هنا يحكيها من منظور الزوجين نفسيهما.
Parasite.. كلنا “طفيليون” بدرجة ما | حاتم منصور
في الفيلمين يعترف باومباك أن تجاربه الشخصية كانت عاملًا؛ لأنه تربى لوالدين مطلقين، ومر بتجربة طلاق شخصية عام 2013 من زوجته الممثلة جينيفر جيسون لي بعد زواج استمر 8 سنوات وأثمر عن طفل.
هذا التأثير واضح على Marriage Story لأن الأحداث هنا أيضًا عن زوج مخرج وزوجة ممثلة، وابن واحد، لكن بصفة عامة يسعى الفيلم طوال أحداثه لخلق تفاعل بيننا وبين هذه الشخصيات وما يمرون به بسبب الطلاق، باعتبارهم أسرة لا تختلف عن ملايين الأسر.
الملعب الذي يصبح فيه باومباك وشخصياته في أفضل حالاتهم وأكثرها مصداقية، هو ملعب تفاصيل الحياة اليومية، والأشياء التي تبدو عادة صغيرة، لكنها تترك بصماتها الكبيرة على أمزجتنا وأرواحنا وعلاقاتنا. الكثير من المشاهد والحوارات المهمة هنا تحدث بينما تقوم الشخصيات بأعمال روتينية للغاية مثل الطهو والقيادة وتغيير الملابس، ويميل باومباك في الكثير منها لتنفيذ المشهد بدون تقطيع مونتاج ليترك آثرًا أكثر مصداقية.
في المقابل لا يملك باومباك – ربما بسبب طباعه الشخصية الهادئة الواضحة في أي لقاء تليفزيوني – نفس الخبرات والذكاء الفني، عندما يقترب من ملعب الانفعالات الغاضبة، وهو ما يتضح بشدة في مشهد الشجار الحامي بين الزوجين. حينها يمكنك بسهولة كمتفرج اصطياد محاولات مصطنعة للوصول بمشهد لأفعال ونهاية محددة، دون أن ينجح في صياغة المعطيات المقنعة التي تجعل الشخصيات تتحدث وتتحرك بهذا الشكل، وتصل لهذه النهاية.
Green Book.. ما نجح فيه “الكتاب الأخضر” وفشلت فيه السينما المناهضة للعنصرية | حاتم منصور
نفس الشيء يمكن قوله عن بعض الشخصيات المساندة في الفيلم. على عكس الزوجين الأقرب لنماذج نعرفها ولها مصداقيتها، يصيغ باومباك هنا بعض الشخصيات بطريقة كاريكاتيرية ومبالغ فيها، وأخص بالذكر مثلًا شخصية الجدة.
هذه الثغرات تمنع الفيلم إلى حد كبير من الحفاظ على مصداقيته وتأثيره، وتسحبه خطوات للخلف مقارنة بأفلام أفضل عن الطلاق والنفور في العلاقات والصراعات على رعاية الأبناء. ويظل كرامر ضد كرامر Kramer VS. Kramer بالأخص العمل الأكثر شهرة وجماهيرية في هذه النوعية حتى اليوم، رغم مرور 40 عامًا على عرضه، بفضل مصداقية الشخصيات.
إلى حد ما يعالج أبطال الفيلم هذه الثغرات. سكارليت جوهانسون تقدم هنا أفضل أداء لها منذ مدة، ودليل جديد أن وراء هذا الوجه الجميل ممثلة ضمن الأفضل في جيلها. غالبًا ستنال عن الدور أول ترشيحاتها للأوسكار، لكن يظل الفيلم مدينًا أكثر لـ آدم درايفر الذي يؤدي دور الزوج.
يمنحه الفيلم وقتًا أكبر، ومساحات درامية متباينة تتضمن الشخصية وهي تبوح عن مشاعرها، أو تكتمها، أو تفلتها دون قصد، وفي كل هذه الحالات يجيد درايفر اللعب، حتى عندما يخونه السيناريو بمواقف أو جمل مفتعلة. لديه أيضًا مشهدان أو ثلاثة من النوع الذي يعلق في الذاكرة، وربما في أي عام آخر كنت سأعتبره من الآن الفائز المؤكد بالأوسكار، لكن في ظل تواجد واكين فينيكس بدور الجوكر، لن تكون هذه المهمة سهلة بالتأكيد.
واكين فينيكس يقطع تذكرة الأوسكار الثانية للجوكر | حاتم منصور
باقي القائمة تتضمن ممثلين اجتهدوا قدر المستطاع على ضوء المتاح، ومنهم (آلان ألدا – راي ليوتا – لورا ديرن)، لكن القصة تختزلهم في جانب محدد كطاقم المحاماة الذي يدير صراعات الزوجين.
رغم هذا فمن المرجح طبقًا للمعطيات والمؤشرات الحالية أن تشمل ترشيحات الأوسكار هذا العام، لورا ديرن كأفضل ممثلة مساعدة، وهو ما يصعب تفسيره لأن الأداء غير مميز للدرجة، لكن ربما تتعلق الأمور بخطبة نسوية تقدمها في أحد مشاهد الفيلم عن مظلومية حواء، وبالتأكيد يمكن لهذه التفصيلة الصغيرة حشد مصوتين واهتمام حاليًا، إذا وضعنا في الاعتبار إصرار كثيرين على فرض الأجندة النسوية.
كيف أصبحت الأجندة النسوية المعاصرة في هوليوود منفرة؟ | حاتم منصور
إجمالًا، يبدو Marriage Story فيلمًا مناسبًا وجذابًا جدًا لهذا النوع من المصوتين؛ بفضل المساحة التي يمنحها لبطلته، وخطابه المتعلق بتحقيق حواء لذاتها مهنيًا، في ظل مجتمع ذكوري لا يزال يختزلها في واجبات الزوجة والأم. لكن من منظور فني بحت يصعب تصنيف الفيلم كعمل جدير فعلًا باقتناص الجوائز الكبرى، في عام يحمل الكثير والكثير من الأعمال الأقوى.
فيلم الأيرلندي The Irishman مثلًا كمنافس على الأوسكارات الرئيسية يُصنف كعمل يخاصم هذا النوع من المصوتين، وقد بدأت موجات الهجمات النسوية ضده بالفعل، باعتباره فيلمًا ذكوريًا يُهمش شخصياته النسائية إلى أقصى حد.
The Irishman.. كيف صنع سكورسيزي حفل تأبين “الرفاق الطيبون”؟ | ريفيو | حاتم منصور
على كل، وعلى العكس من أفلام عديدة أخرى يجري تلميعها وترقيتها كل عام في موسم الجوائز لأسباب متعلقة بالأجندات، ثم تذهب لدائرة النسيان والتجاهل جماهيريًا، يملك Marriage Story على الأقل ما يضمن له أهمية ووزنا جماهيريا حاليًا ومستقبلًا.
هذا فيلم عن الحدث الحاد الذي مر ويمر وسيمر به ملايين (الطلاق)، والطريقة التي يصيغ بها الطلاق كحادثة محزنة لكن لا مفر منها، والرؤية المتعاطفة التي يقدمها عن الزوجين، تكفل للفيلم بالتأكيد ملامسة لحياة ملايين البشر.
عندما صنعت هوليوود كرامر ضد كرامر عام 1979 كان المجتمع الأمريكي يشهد بشائر انهيار مؤسسة الزواج وانتشار الطلاق. إحصائيًا وحتى 1985، كانت أغلب الزيجات الأمريكية تنتهي عند وفاة أحد الزوجين. فقط منذ 1985 وحتى اليوم أصبحت النهاية المرجحة للزواج هي الطلاق.
فيلم Marriage Story يأتينا الآن في عصر مختلف، لم يعد فيه للطلاق نفس التأثير المقلق والمنفر، وأصبح منتشرًا ومتزايدًا حتى في أشد المجتمعات المحافظة (أرقام الطلاق في الدول العربية دليل).
هل نحتاج لأفلام وأعمال تصيغ الطلاق كجزء عادي من دورة الحياة، أكثر مما تصيغه في صورة الكارثة التي يجب تجنبها بأى ثمن؟
Judy.. عن هوليوود التي شيدت مجدها بالانتهاكات | أمجد جمال
الإجابة ستختلف من شخص لشخص، لكن Marriage Story يقدم الطلاق على الأقل، كحدث يمكن إنجازه بشكل أكثر تحضرًا من قصص الطلاق الواقعية السائدة في مجتمعاتنا، وكمحطة لا تستدعي بالضرورة كراهية أبدية بين الطرفين وتصرفات انتقامية وخلافه.
في هذه الجزئية تحديدًا، يمكننا بالتأكيد أن نشكر الفيلم وصناعه. إذا كان الطلاق حادثًا مؤلمًا لا مفر منه للبعض، فليكن إذًا حادثًا أقل ضررًا من حالته السائدة.
أداء سكارليت جوهانسون وآدم درايفر يعالج الكثير من العيوب والثغرات الفنية هنا، ويجعل الفيلم عملًا واجب المشاهدة باعتباره (أجمل قصة حب عن الطلاق)! قد تكون هذه القصص ما تحتاجه البشرية حاليًا، ما دمنا لا نستطيع بعد تجنب (حادث الطلاق) – أو ربما وهذا رأى شخصي – ما دمنا لا نستطيع بعد تجنب (حادث الزواج)!
مرشح لـ 6 جوائز أوسكار 2020 (فيلم – ممثل/آدم درايفر – ممثلة/سكارليت جوهانسون – ممثلة مساعدة/لورا ديرن – سيناريو أصلي – موسيقى تصويرية).
لماذا أصبح 1917 التجربة السينمائية الأهم في موسم أوسكار 2020؟ | ريفيو | حاتم منصور
The Irishman.. كيف صنع سكورسيزي حفل تأبين “الرفاق الطيبون”؟ | ريفيو | حاتم منصور
Ford v Ferrari.. كريستان بيل ومات ديمون يتسابقان إلى الأوسكار | ريفيو | حاتم منصور