الحديث المتواتر والآحاد | هل أتى محمد بن سلمان بجديد؟ وهل له أثر على أرض الواقع؟ | هاني عمارة

الحديث المتواتر والآحاد | هل أتى محمد بن سلمان بجديد؟ وهل له أثر على أرض الواقع؟ | هاني عمارة

2 May 2021
هاني عمارة دقائق.نت

هاني عمارة

باحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

عندما سئل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عن مسألة الشريعة الإسلامية ومساحتها في في دستور وقوانين الدولة، أكد على اعتبار القرآن هو المرجع الأساسي. لكنه فرق في الحديث عن السنة بين الحديث المتواتر وحديث الآحاد. واعتبر المتواتر حجة، لكنه قلل من درجة حديث الآحاد وإلزاميته في التشريع باعتباره “محل نظر”، متطرقًا لأمور أخرى عن الاعتدال وفتح باب الاجتهاد وعدم التزام السعودية بمذهب معين.

فورًا، تباينت وجهات النظر في مغزى كلام محمد بن سلمان: احتفت به الكثير من التيارات التنويرية والتجديدية التي ترى ضرورة إعادة النظر في التراث وما يترتب عليه من قوانين وتشريعات اجتماعية، وبالغ البعض باعتباره إسقاطًا للسنة من التشريع والقوانين، بينما رأت بعض الجهات الدينية منها هيئة كبار العلماء أن كلام ولي العهد والشخصيات الدينية ليس جديدًا ولا يحمل إنكارًا للسنة.

هيئة كبار العلماء السعودية

هل يعني كلام ولي العهد إسقاط أحاديث الآحاد التي تشكل أكثر من 90% من المنظومة الروائية؟

هذا ما نناقشه في النقاط التالية:

الحديث المتواتر والآحاد

الحديث المتواتر والآحاد هو تعبير اصطلاحي يميز بين نوعين من الحديث المنقول عن الرسول:

الحديث المتواتر: هو ما يرويه الجماعة عن الجماعة إلى آخر السند، بشكل لا يحتمل تواطؤهم على الكذب.

أما حديث الآحاد: فهو المروي بطريق الواحد في سنده، بما ذلك الصحابي الراوي عن الرسول.

الأصوليون قديمًا فرقوا بين المتواتر والآحاد، فاعتبروا المتواتر أعلى درجات الصحة لعدم احتمال التواطؤ على الوضع بين المجموعة، بخلاف خبر الواحد الذي – حتى مع احتمال صحته – قد يتطرق له احتمال الخطأ أو السهو من الراوي.

ويقسم الحديث المتواتر إلى لفظي ومعنوي؛

فاللفظي هو ما كان منقولا بلفظه من عدة طرق،

والمعنوي هو ما كان أحاديث مختلفة من عدة طرق بنفس المعنى.

وقد حاول عدد من المحدثين قديمًا وحديثًا جمع واستقصاء الأحاديث المتواترة، مع ملاحظة اختلافها في بعض شروط التواتر، فبلع أقصى عدد أمكن جمعه من الحديث المتواتر ما ورد في كتاب “نظم المتناثر من الحديث المتواتر” لمحمد المنتصر الكتابي بعدد 310 أحاديث.

محمد رشيد رضا | وجهه الآخر.. رد أحاديث من البخاري ومسلم وندد بمذابح الأرمن | هاني عمارة

جذور القضية.. معركة الرأي والحديث

جذور الخلاف تعود للخلاف المبكر بين مدرسة الرأي ومدرسة الحديث (أبو حنيفة ومالك) في القرنين الثاني والثالث الهجري.

فبينما كانت مدرسة الحديث التي يمثلها الإمام مالك في المدينة والمحدثين من بعده تعتمد بالأساس على الأحاديث، كانت مدرسة الرأي في العراق ممثلة في أبي حنيفة والعراقيين تعتمد على النظر والاجتهاد والآليات العقلية كالقياس والاستحسان في التشريع.

ولهذا عرف مبكرًا عن مذهب أبي حنيفة تحفظه النسبي في الاستدلال بالأحاديث، ومخالفة مذهبه في عدد ليس بالقليل من المسائل لمشهور الأحاديث الصحيحة.

ويعود هذا لعدم قبول المذهب الحنفي بأحاديث الآحاد بإطلاق، مع مباحث مطولة في تعريفه وتقسيمه محلها كتب الأصول. ويترتب عليها وضع شروط لقبوله،

منها مثلًا ألا يكون الخبر في شيء مما يشاع ويتكرر عمله باستمرار وتعم به البلوى ويكون مرجعه خبر الواحد.

ولهذا يخالف المذهب الحنفي في أحكام الصلاة في عدد من المسائل التي وردت أحاديث صحيحة باعتبار أنها خبر آحاد. والصلاة فعل متكرر، فتركوا الجهر بالبسملة، ورفع اليدين في الركوع والقيام منه.

وقد ترتب على هذا الموقف من أبي حنيفة تشنيع بعض المحدثين عليه باعتباره يقول برأيه ويخالف سنة الرسول، ونُقلت عنهم أقوال ومرويات جمعها الخطيب البغدادي في تاريخه.

حتى أن ابن أبي شيبة، وهو من من كبار المحدثين وشيخ البخاري ومسلم، خصص بابًا في كتابه المصنف لذكر الأحاديث التي خالفها أبو حنيفة معنونًا: “الرد على أبي حنيفة.. هذا ما خالف به أبو حنيفة الأثر الذي جاء عن رسول الله“.

إشكالات فتح القسطنطينية.. هل بشر النبي فعلًا بجيش محمد الفاتح العثماني؟ | هاني عمارة

دخول الشافعي على خط الخلاف

لعب الشافعي دورًا مؤثرًا في نصرة مدرسة الحديث على مدرسة الرأي، بعد أن تتلمذ على المدرستين، ثم انبرى في تصنيف أصول مذهبه من خلال كتابه الرسالة فأبطل عددًا من أصول أصحاب الرأي انتصارًا لأصحاب الحديث.

ومن أهم تلك الأمور انتصاره لحجية خبر الواحد مشترطًا فقط ثقة الراوي واتصال السند، استدلالًا بآيتين من القرآن، مع تعسف في تأويلهما كعادة الشافعي في الاستدلال.

انتصار الشافعي لأصحاب الحديث وما تبعه من تدوين كتب الحديث وشيوعها دفع الطبقات التالية من فقهاء الأحناف إلى قبول الأحاديث بالجملة، وبشروط المحدِّثين، مكتفين بأصول المذهب في المسائل التي استقرت.

ومن يطالع شروح كتب الحديث التي كتبها أئمة من الأحناف يجد لديهم الطابع الدفاعي عن المذهب في مخالفة السنة، ومحاولة الرد على المسائل التي يخالف فيها مذهبهم صحيح الحديث، مثال “نصب الراية” للزيلعي، و”شرح البخاري” للعيني.

كما صنف الأحناف في الدفاع عن أبي حنيفة ونفي تهمة إنكاره للسنة كما في المقدمة المسهبة لكتاب “إعلاء السنن” للتهانوي.

قراءة سياسية في أحاديث نجاسة الكلب.. لماذا روجتها مذاهب العراق وأنكرها أهل الحجاز؟ | هاني عمارة

أثره في صراع المحدثين والمتكلمين

جدل الحديث المتواتر والآحاد ترك كذلك أثرًا في العقيدة في الخلاف بين المتكلمين كالمعتزلة والأشاعرة من جهة، والمحدثين والحنابلة من الأخرى؛

حيث يعتبر المتكلمون خبر الواحد يفيد غلبة الظن وليس القطع، وهو مذهب الجمهور، كما ذكره النووي في كتاب “التقريب”

في حين لا يفرق المحدثون والحنابلة في العموم بين الحديث المتواتر والآحاد في الاعتقاد.

أحاديث آخر الزمان | متى ظهرت أحاديث قتال الترك؟ ولم اختفت؟| هاني عمارة

السلفية في مواجهة المدرسة العقلية الحديثة

في العصر الحديث ومع دخول الاحتلال الأوروبي وما تبعه من ثقافات وعلوم فلسفية عقلية حديثة، كان للمدرسة العقلية وعلى رأسها محمد عبده ومحمد رشيد رضا موقفًا متحفظًا من أحاديث المعجزات والغيبيات التي تخالف العقل، بما دفعهم لإنكار بعضها باعتبارها أخبار آحاد ظنية وليست قطعية،

منها مثلًا إنكار محمد عبده لحديث شق صدر النبي، وإنكار رشيد رضا لحديث سحر النبي وانشقاق القمر، باعتبارها أخبار آحاد.

أما السلفية الحديثة التي سادت وهيمنت بكافة فروعها، ومع اشتغالها بكتب الحديث والسنة، فرفضت هذا التقسيم، واعتبرت صحة الحديث حتىى لو بخبر واحد حجة في التشريع والاعتقاد، فأصبح الحديث لديهم يكاد يكون بمنزلة القرآن، وما ترتب عليه من توسع في استنتاجات عقدية من خلال الأحاديث دفع البعض منهم للتوسع في التكفير استنادًا للحديث.

وكان له الاثر السيء في تمحور الدين في عقول العوام حول صحة أو ضعف حديث، دون مراعاة لاعتبارية شروط الضعف والصحة التي وضعها المحدِّثون، وبالغوا في نصوص الحديث وهيمنتها على حساب مصادر التشريع الأخرى التي أقرها الأصوليون، والسنة واحدة منها.

قراءة في حديث محمد بن سلمان

من خلال استعراض حوار ولي العهد محمد بن سلمان، لست مع الذين يرونه قرارًا بإلغاء السنة وعلمنة المملكة، حيث أكد على مرجعية الشريعة،

وفي نفس الوقت لست مع من اعتبره ليس بجديد على المنهج السائد في السعودية من اعتبار السنة بإطلاق مصدرًا للتشريع مع القرآن، حيث إن كلامه حمل تقسيمًا للأحاديث يخالف الرأي الرسمي في المؤسسة الدينية الذي يجعلها بمنزلة واحدة في التشريع.

سياق الكلام كان سؤالًا عن القوانين والتشريعات في المملكة، ودور الشريعة فيها ورد ولي العهد كان تحديدًا في العقوبات.

فكرة استبعاد أحاديث الآحاد في العقوبات يقوم على اشكالية وجيهة أثارها عدد من المعاصرين: كيف يكون إثبات العقوبة بأكثر من شاهد وقرائن، في حين أن مصدر العقوبة نفسها يكون شاهدًا واحدًا (حديث الأحاد)؟

وهو ما يعني أنه في الفترة المقبلة، سيكون هناك إعادة نظر في العقوبات في السعودية ذات المرجعية الشرعية عبر فتاوى المؤسسة الدينية، والتي تخالف حقوق الإنسان والحريات العامة،

وهو ما أكده محمد بن سلمان حين قال إنه لا عقوبة إلا بنص قطعي الدلالة من القرآن أو صحيح السنة وبتطبيق الرسول، بما يعني توجه السعودية لتمدين قوانين العقوبات وإلغاء عقوبات الجلد والقطع والرجم ذات الأثر السلبي على الصورة العامة العالمية للمملكة.

ذلك أن تلك القوانين تعيق التوجه العام للدولة نحو الانفتاح وجلب الاستثمارات والتوسع في النشاط السياحي مع تراجع الاعتماد على النفط.

وقد أشار ولي العهد صراحة لهذا الأمر في نفس الحوار حيث ربط الاقتصاد والاستثمار بالاعتدال الديني، واعتبر الفكر المتطرف عائقًا أمامه؛ حيث أن تقييد الاعتماد على النصوص باشتراطات درجات أعلى في موثوقيتها مع فتح المجال لإعادة النظر وتأويلها سيكون له دور في هذا الانفتاح وتمدين القوانين.

تبعات الخطوة

من المتوقع أن يشمل هذا الانفتاح الكثير من إلغاء القوانين المتشددة ذات المرجعية الدينية على ملابس النساء وحركتها، وبعض العقوبات الدينية البدنية، أو القوانين التمييزية التي تميز بين المسلم وغير المسلم، أو القوانين المقيدة للحريات العامة والدينية في المجال العام

الأمر بهذه الصورة هو إحياء لفقه أبي حنيفة العقلي مبكرًا، قبل أن يتحول للنصوصية من خلال تقديم الآليات العقلية في التشريع وتقليل الاعتماد على النصوص بوضع اشتراطات عقلية وموضوعية لقبولها.

في نفس الوقت، ليس من المتوقع أن يترتب على هذا الأمر حظر أو إلغاء أو تجريم لكتب الأحاديث، أو إلغاء المدارس الدينية كما يتصور البعض.

لكن من المتوقع أن يساعد في تجديد وتطوير خطاب المدارس لاسيما المتعلق بمواجهة الخطاب المتطرف والداعم للإرهاب، كما ستفتح قنوات تواصل مع سائر المذاهب الإسلامية.

كما من المتوقع أن يكون لهذا التحول أثر يتجاوز المملكة إلى المحيط الإسلامي الذي يعاني من نفس الإشكاليات.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك