ينسب تأسيس التمويل الحديث ألكسندر هاملتون، أول وزير خزانة أمريكي. بفكرة بسيطة: بناء بنية مالية متطورة تسمح للحكومة بالاقتراض بسعر رخيص، فتأسست الديون الفيدرالية، وبدأ تداول السندات الجديدة في الأسواق المفتوحة.
احتاج ذلك بنكًا مركزيًا، فتأسس (BUS) بملكية كاملة للقطاع العام، والذي سيتطور ليصبح “الاحتياطي الفيدرالي” الذي يحرك أهم تفاصيل الاقتصاد العالمي حتى اليوم.
نظام هاملتون قام على تصميم ركيزتي “البنك والديون” لدعم بعضهما البعض: لتحصل على سهم بـ 400 دولار، ستحتاج لدفع الجزء الأكبر من المبلغ بالسندات الفيدرالية. ونجحت الفكرة شعبيًا حتى قبل افتتاج البنك المركزي رسميًا.
زاد الطلب على الديون الحكومية، وضمن البنك مجموعة أصول آمنة، ووفر فرصًا استثمارية؛ من بين 10 ملايين دولار في أسهمه، ضخ 8 ملايين دولار للمقترضين.
خطة هاميلتون كشفت أولى أزمات نظام التمويل الحديث: تقزيم البنك المركزي للمقرضين الآخرين، وظهور حمى المضاربة، ونشأة أسواق البيع على المكشوف والعقود الآجلة، التي استغلها ويليام دوير، صديق هاملتون القديم، بإصدار سندات ديون شخصية، عجز عن سدادها، فاضطر لطلب ديون جديدة.
كل هذا مر دون مشكلة، حتى انتشرت الأخبار عن أزمة دوير، فانخفضت أسعار الدين الحكومي، وأسهم البنك، وأسهم الشركات المتداولة الأخرى بنحو 25٪ في أسبوعين.
ورغم القبض على دوير. لم يتوقف الذعر، وبدأت الشركات في التساقط.
حل هاملتون الأزمة بآليات فكرتها الأساسية “إعادة الطمأنينة للسوق”، ولو باستخدم المال العام لشراء السندات الفيدرالية ورفع أسعارها (عكس هدفه الأصلي من التأسيس)، ليقر سابقة تعميق اعتماد النظام المالي على دعم الدولة.
لكنه بالنهاية ساعد على حماية البنك والمضاربين والمقترضين المتعثرين.
المخاوف من تكرار الأزمة استمرت، فأقر المشرعون قواعد مشددة في أبريل 1792. وللرد، اجتمع 24 متداولًا في وول ستريت، وأسسوا ناديًا تجاريًا “خاصًا” كان نواة تأسيس بورصة نيويورك، والتي ستفتح الباب أمام أعمال البورصات المحورية في الأداء السلس للمشهد الجديد.
وأخيرًا عادت الثقة، وازدهر التمويل، فتحولت نيويورك لقوة مالية عظمى في غضون نصف قرن.
في عشرينيات القرن 19، كانت بريطانيا مزدهرة، مع نمو الإنتاج الصناعي بـ 34%، ومع مانشستر أول مدينة صناعية في العالم، ومع قوة تصديرية هائلة، ووراثة لندن لمكانة أمستردام باعتبارها المركز المالي الرئيسي لأوروبا، الذي تلجأ إليه الحكومات الأجنبية للحصول على الأموال.
استثمر الأثرياء أموالهم في السندات الحكومية المتوفرة بكثرة بسبب حروب نابليون الأخيرة. لكن الحرب انتهت، فانخفض العائد على الدين الحكومي. ومع معدل تضخم 1٪، كان العائد متواضعًا بالقيمة الحقيقية. أو بمعنى آخر: “استثمار مضمون لكنه ممل”.
وجد مستثمرو بريطانيا ضالتهم في دول أمريكا اللاتينية المستقلة حديثًا عن الإمبراطورية الإسبانية المنهارة، لتبيع كولومبيا وتشيلي وبيرو والمكسيك وغواتيمالا سندات بقيمة 21 مليون جنيه إسترليني (2.8 مليار دولار بأسعار اليوم) في لندن.
المشكلة كانت بسيطة لكنها مدمرة: الرحلة إلى أمريكا الجنوبية تستغرق ستة أشهر، لذلك أبرمت الصفقات على أساس معلومات مشوشة، روجها صحفيون مقابل أموال، ولم يجر لها المستثمرون الدراسات المناسبة، بما وصل لتداول سندات نيابة عن دولة جديدة “وهمية”.
مجددًا، التداول العشوائي لم يسبب أزمة، بل “تسرب الذعر” بعدما تكشفت، فانهارت أسعار السندات، وتدافع المودعون لحسب أموالهم، وتضررت البنوك وشركات التعدين بشدة.
ورغم تدخل بنك إنجلترا في عملية إنقاذ اعتبرها والتر باجهوت نموذجًا للبنوك المركزية في وضع الأزمات، فشلت أكثر من 10٪ من البنوك في إنجلترا وويلز في السداد.
رد فعل بريطانيا على الانهيار سيغير شكل البنوك؛ إذ لم يتهم بنك إنجلترا إهمال المستثمرين بالتسبب في الأزمة، بل البنوك نفسها؛ لأنها تورطت في “الإقراض المتراخي”.
لتصحيح الوضع، غيرت إنجلترا تنظيم البنوك بشكل كامل، سعيًا لتأسيس بنوك أكبر تملك ثقلًا كافيًا للنجاة من الكساد الحتمي، وتدخل في عملية الإقراض كمساهمين.. تطور كبير في التاريخ المالي جلب الكثير من المكاسب، لكنه حمل خطر أن سقوط أي بنك كبير بات يعني خطرًا شاملاً على الاقتصاد.
بحلول منتصف القرن التاسع عشر، اعتاد العالم الأزمات المالية بقاعدة “واحدة لكل عقد”. لكن انهيار 1857 كان كارثيًا؛ لأن الصدمة امتدت من بريطانيا إلى عواصم أوروبا، ثم العالم.
ظاهريًا، كان الأداء المالي في بريطانيا جيدًا: ودائع نمت 400٪ تقريبًا بين عامي 1847 و1857، شجعت على ظهور شكل جديد من المقرضين يسمى “بيت التخفيض”، وعلى شراء الأصول الأمريكية، خصوصًا في السكك الحديدية، التي لم تكن تحقق الأرباح المطلوبة، لكن المستثمرين اعتبروها “رهانًا على النمو المستقبلي”.
دور الدولة الذي تحدثنا عنه سابقًا سيصنع الأزمة هذه المرة: بيوت التخفيض قلصت احتياطاياتها النقدية إلى ما يقارب الصفر، معتمدين على حقيقة أنه يمكنهم دائمًا الاقتراض من بنك إنجلترا إذا واجهوا عمليات سحب كبيرة من المودعين، فقدم بعضهم قروضًا محفوفة بالمخاطر بقيمة 900 ألف جنيه إسترليني، رغم أن رأس المال لا يتجاوز 10 آلاف جنيه.
في هذه الأثناء، كانت شركات السكك الحديدية في أمريكا تتساقط تحت سقف الديون، واكتظت وول ستريت بالمودعين المذعورين الذين يطالبون بأموالهم. لترفض البنوك تسييل الودائع؛ إعلانًا بفشل النظام المالي الأمريكي، ومنه انتشر الذعر في بريطانيا، ومنها إلى العالم.
هنا جاء الدرس الثاني: اعترف بنك إنجلترا أن شبكات الأمان المالي تخلق مجازفة مفرطة. فغير سياساته في 1858، ليلزم البنوك وبيوت التخفيض بالاحتفاظ باحتياطياتهم النقدية الخاصة، بدلًا من الاعتماد على دعم البنك المركز، مسجلًا مثالًا نادرًا جدًا على محاولة الدولة التراجع عن الدعم.
توقعت البنوك وبيوت التخفيض أن الأمر مجرد تهديد، وأن بنك إنجلترا لن يسمح بسقوطهم. لكن البنك رفض إنقاذ إحداها بالفعل، بما أدى إلى القضاء على مساهميها. لكنه أوصل الرسالة: لن نتحمل نتائج خطاياكم، ليعود الالتزام، وتتمع بريطانيا بعد ذلك بخمسين عامًا من الهدوء المالي، في حقيقة يعتقد بعض المؤرخين أنها ترجع إلى حكمة قطاع مصرفي قرر التجرد من المخاطر الأخلاقية.
في فترة ما بعد الحرب الأهلية في أمريكا، تضاعف عدد البنوك إلى 22 ألفًا (بنك لكل 4,000 شخص). لكن المستثمرين فضلوا الصناديق الاتئمانية، التي تدعم استثمارات أكثر مخاطرة؛ كونها تحتفظ بـ 5% فقط من أصولها كنقد، وتدفع فوائد أعلى للمودعين.
استغل محتالان – أوغسطس هاينز وتشارلز مورس – الثغرة فسحبوا مبالغ طائلة لاحتواء السوق في أسهم شركة يونايتد كوبر.
حينها، كان الاقتصاد بدأ يتباطأ قليلاً، بما أدى لانخفاض أسعار المواد الخام، ومعها انخفضت أسهم الشركة، فسحبا أموالًا أكثر من البنوك والصناديق.
رغم كل هذه المتاعب ظل الاقتصاد قويًا. لكن الأمريكيين شعروا بالذعر، فبدأوا في الضغط لسحب الأموال، وخزنوها في المنازل، فارتفعت الفائدة إلى 135%.
تدخل جون بيربونت مورغان للمساعدة في تخفيف الضغط، وأقر اتفاقًا على صندوق إنقاذ بقيمة 25 مليون دولار. لكن السوق لم ير الخطوة كافية، واستمر سحب الودائع، حتى بدا الانهيار وشيكًا، فأعلنت الولايات عطلات مصارف طارئة.
بالنهاية، نقصت الأموال، وتضررت الأعمال التجارية بشدة، حتى انخفض الناتج القومي بنسبة مذهلة بلغت 11٪ بين عامي 1907 و1908.
هنا، اعتمدت البنوك بدائل بينها الشيكات. كلها كانت غير قانونية حينها، لكنها جمعت 500 مليون دولار من القطاع الخاص، بقيمة أكبر بكثير مما كافح صندوق إنقاذ مورغان لجمعه.
ونجح الحل “غير القانوني”، ليعاود الاقتصاد الأمريكي النمو في 1909.
هنا تدخلت أموال الطوارئ الرسمية مع خطة بـ 500 مليون دولار، مع قرارات طويلة الأمد، تضمنت قوانين العملة الجديدة، مع بند لإنشاء لجنة وطنية لإعادة تشكيل النظام اعتمادًا على أفضل تجارب العالم. وكانت النتيجة قانون الاحتياطي الفيدرالي لعام 1913، الذي أنشأ البنك المركزي الأمريكي الحالي.
حتى عشية ركود 1929 – الذي يصنف باعتباره الأسوأ على الإطلاق – كانت الأمور وردية: اقتصاد مزدهر، ووظائف قوية، ومعدلات أجور واستهلاك مرتفعة، والبنوك تحت مظلة الأمان، مع ودائع تصل 60 مليار دولار، 60% منها قدمت كقروض، والباقي محمي تمامًا إما كنقد أو سندات حكومية فائقة الأمان.
لكن سوق الأسهم الأمريكية انهار دون مقدمات في الثلاثاء الأسود، 29 أكتوبر 1929، معه أكبر وأشهر الأزمات الاقتصادية في القرن العشرين.
السبب المباشر كان ارتفاع العرض عن الطلب، بما أعحز المضاربين عن تسديد ديونهم، وبالتالي أفلست البنوك. لكن الأزمة كانت أقدم 10 سنوات؛ إذ تحركت أسعار الأسهم في التقنيات الجديدة – أجهزة الراديو والألمنيوم والطائرات – تحت ضغط الطلب، بينما قيمة التقنيات نفسها في المتاجر ضعيفة.
لبعض الوقت، أصيب الاحتياطي الفيدرالي بالشلل، أمام لعز: هل يرفع سعر الفائدة لإبطاء سوق الأهم؟ أم يخفضها لمساعدة الاقتصاد.
في النهاية رفع أسعار الفائدة من 3.5٪ إلى 5٪ في 1928، وهذا خطأ فادح؛ لأن الزيادة كانت أصغر من أن تخفف حدة اندفاع السوق: فارتفعت أسعار الأسهم لأعلى مستوياتها في سبتمبر 1929، بينما الصناعات الأمريكية تتعثر على الأرض.
بحلول أواخر الصيف، انخفض الإنتاج الصناعي بمعدل سنوي 45٪، ومع الأخبار عن انهيار بورصة لندن في سبتمبر، بدأت عمليات بيع أسهم بكثافة، ليفقد مؤشر داو جونز ما يقرب من 25٪. خلال يومين فقط، ثم 45٪ في شهرين.
الأسوأ أتى عندما عجزت البنوك عن سداد طلبات سحب الودائع، لتسود حالة الذعر، ويبدأ الأمريكيون مجددًا في اكتناز العملة.
حاول الاحتياطي الفيدرالي التدخل لكنه فشل، فلجأ إلى العطلات المصرفية. والنتيجة: انخفاض المعروض النقدي 30٪، وارتفاع البطالة من 3.2٪ إلى +25٪.
بات واضحًا أن هناك حاجة للإصلاح. وكانت الخطوة الأولى هي التخلص من مخاطر النظام.
تدخل الاحتياطي الفيدرالي لإنقاذ البنوك المتبقية. لكنه وضع تشريعات لضمان تحييد المخاطر المستقبلية، بفصل الاقتراض لعمليات البورصة عن الإقراض العادي، وتأسست الهيئة الفيدرالية لتأمين الودائع (FDIC) للتعامل مع عمليات تشغيل البنوك، عبر حماية جزء من ودائع لكل عميل؛ باعتبار أن المودعين الواثقين في المؤسسة لن يصطفوا في طوابير في البنوك عند أدنى تذبذب مالي.
بالنهاية، لم يكن هذا ما كان يأمله هاميلتون، الذي أراد نظامًا ماليًا يجعل الحكومة أكثر استقرارًا، وأراد البنوك والأسواق التي تدعم الدين العام للسماح بالإنفاق العسكري والبنية التحتية بمعدلات فائدة منخفضة.
لكن بحلول عام 1934، تأسس النظام المعاكس: أصبحت مهمة الدولة الآن ضمان استقرار النظام المالي، وليس العكس. ومن خلال تحميل المخاطر على دافعي الضرائب، أدى تطور التمويل إلى خلق دعم مشوه في قلب الرأسمالية.