وفقًا لكتاب "اللؤلؤ المكنون" لموسى العازمي، فإن مخيريق كان أحد علماء اليهود "من أيسر بني قينقاع"، وتحديدًا من قبيلة بني ثعلبة حلفاء قبيلة الأوس، في عدائهم التاريخي مع الخزرج قبل قدوم النبي محمد إلى المدينة.
بعد غزوة بدر 624م، أمر النبي بطرد يهود بني قينقاع من المدينة بعدما قتلوا مسلمًا في حصنهم.
لم يرحل مخيريق مع قومه، وإنما عاش مع يهود بني النضير.
ووفقًا لرواية ابن إسحق، كان محُيريق حبْرًا عالمًا، جمع كثيرًا من الأموال من النخل، أدرك صِدق دعوة النبي محمد بصفاته التي وجدها في التوراة، حتى "غلب عليه إلفُ الإسلام".
وفقًا للمصادر الإسلامية التي أرّخت لمعركة أحد، فإن النبي محمدا عندما خرج بجيش المسلمين من المدينة لملاقاة جيش قريش. أعرب واحدٌ من يهود بني النضير يُدعى مُحَيْريق/ مخيريق عن رغبته في دعم النبي والمسلمين في هذه المعركة.
بذل مخيريق جهودًا كبيرة لإقناع قومه بالانضمام لجيش النبي. فبحسب المرويات الإسلامية، قال مخيريق لقومه: "يا معشر يهود! والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق".
رفض اليهود الاستجابة لمخيريق والانضمام للنبي، بدعوى أن الغزوة وقعت يوم السبت (19 مارس عام 625م، الموافق لـ3 شوال عام 3هـ)، وهو يوم إجازتهم المقدس الذي يجب ألا يمارسوا فيه أي نشاط، فخرج مخيريق وحده، وانضمّ لمُعسكر المسلمين، وقاتل معهم حتى قتل.
اتسمت الرؤية التاريخية الإسلامية لسيرة مخيريق بالكثير من التناقض.
بعضها، اكتفى بالإشادة بموقفه يوم أحد دون زيادة على ذلك باعتباره مات على اليهودية، مثل حديث الواقدي:".. وُجِد مخيريق مقتولاً به جراح، فدفن ناحية من مقابر المسلمين، ولم يصلِّ عليه، ولم يُسمع رسول الله يومئذ ولا بعده يترحم عليه".
وهنا، بحسب رواية الواقدي، فإن أكبر تكريم قدّمه النبي للحَبْر اليهودي هو دفنه جوار مقابر المسلمين، وليس في المقابر نفسها، لأنه مات يهوديًّا.
من ناحية أخرى، رفضت بعض كتب التاريخ الإسلامية الأخرى هذه الرواية، واحتفت بسيرة مخيريق بِاعتباره مات مُسلمًا، وصفه راغب السرجاني في كتابه "السيرة النبوية" بـ"مخيريق رضي الله عنه".
فيما اعتبر بعض المؤرخين المسلمين، أن مخيريق أسلم قبل الغزوة مباشرة، لهذا عدّه ابن حجر العسقلاني ضمن الصحابة، وهو ذات ما فعله خير الدين الزركلي في كتابه الأعلام، ولقّبه بالصحابي "مخيريق النضري".
اختلف المؤرخون المسلمون على "إسلام مخيريق"، لكنّهم لم يختلفوا على أفضلية أخرى نالها، سواءً مات مُسلمًا أو لا، وهي أنه "صاحب أول وقف في الإسلام".
يروي السهيلي في كتابه "الروض الأنف" المُخصَّص لسيرة النبي، أن مخيريق أوصى قبل المعركة للنبي بكافة أمواله، قائلاً لقومه "إن أُصبتَ، فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء"، ولما بلغ النبي خبر وفاته، نعاه قائلاً "مخيريق خير يهود"، وفي رواية أخرى "مخيريق سابق يهود".
ورث النبي عن مخيريق 7 بساتين وأموال لم يُحدّد قدْرها. بحسب الرواية، أمر النبي بـ"حبس أمواله" وجعلها أوقافًا لله يُنفق منها على الفقراء، وهو حدث يجري لأول مرة في تاريخ الإسلام.
من هذه التركة الضخمة، أنفق النبي محمد على عوام المسلمين، يقول ابن شبة في كتابه "تاريخ المدينة" إن صدقات الرسول هي "أموال مخيريق اليهودي".
وفي أحد هذه البساتين، أسكن الرسول زوجته المصرية مارية، وفيها ولدت ابنه إبراهيم.
وعندما كان عمر بن عبدالعزيز واليًا على المدينة، بنى في ذات الموضع مسجدًا، لا يزال قائمًا حتى الآن، ويُعرف بِاسم "مسجد أم إبراهيم".
وبعد رحيل الرسول، صُنِّفت أملاك مخيريق ضمن التركة النبوية، التي وجب أن يتناقلها أحفاد النبي.
تزدحم تلك القصة بالعديد من علامات الاستفهام المنطقية. يُمكن تلخيصها في سؤالٍ واحد مركز: لماذا فعل مخيريق ذلك؟ ولماذا قبله الرسول؟
وفقًا لصحيح مسلم، فإن موقف مخيريق حدث بنفس التفاصيل مع شخص غير مسلم (لم تخبرنا الروايات بِاسمه) سعَى للقتال مع النبي في غزوة بدر، فرفضه الرسول قائلاً "ارجع، فلن أستعين بمشرك".
فلماذا رفض النبي الاستعانة بـ"مشرك" في بدر؟ وقبل الاستعانة بـ"يهودي" في أحد؟
هذا السؤال لا إجابة قطعية عليه، إلا إذا اعتبرنا –على سبيل التخمين- أن الرسول قدّر أن اليهودي أقرب إليه من عابد الأصنام! أو أنه رأى أن انضمام مخيريق إلى صفوفه سيكون مُقدمِّة لاجتذاب باقي قومه إلى الإسلام.
هذا عن النبي، أما عن مخيريق نفسه، فالأمر يثير الغرابة إلى أقصى درجة.
فالرجل اليهودي ينحدر من بني قنيقاع، الذين أمر الرسول بطردهم من المدينة بعد غزوة بدر بشهرٍ واحد، فاضطروا جميعًا إلى الرحيل للشام، وبحسب المرويات الإسلامية، فإنهم لاقوا صعوبات جمّة في الطريق، حتى قال البعض إنهم هلكوا جميعًا في الشام.
إذن من المفترض، أننا أمام رجل لاقى أهله الأمرّين بسبب أمر التهجير الصادر من الرسول، فلماذا يغضّ الطرف عنها، ويقرر مناصرته في حربه؟
ألم يكن منطقيًّا أن يُعاون القريشيين في حربهم ضده، حتى تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه، ويمتلك اليهود حرية العبادة والتجارة كما كانوا؟
برّر بعض الباحثين اليهود هذا الموقف، من منطلق أن مخيريق اعتقد أن النبي محمد هو "المسيح الجديد"، الذي يتحتّم ظهوره، كبشارة لقيام مملكة يهودية في فلسطين.
وهنا يجب الإشارة إلى أن إحدى نقاط الخلاف المفصلية بين اليهود والمسيحيين، حاليًا، هي أن اليهود لم يعتبروا يسوع هو المسيح الذي بشّرت التوراة بقدومه، لذا خلال هذه الفترة التي تلت ميلاد المسيح بأكثر من 600 عامٍ كان اليهود ينتظرون مسيحهم، ولا يزالون ينتظرون حتى اليوم.
عام 614م، سقطت القدس في أيدي الفُرس، وسمحوا لليهود بإقامة مملكة فيها، وبعدها بـ5 أعوام، وفد الرسول إلى المدينة، فاعتقد مخيريق أن هذا الرسول العربي هو "المسيح المُنتظر"، الذي سيُتوِّج مساعي إقامة الدولة التي تسبق قيام الساعة وانتهاء الحياة على الأرض.
خلال هذا التوقيت، أبدى الرسول احترامًا كبيرًا لبيت المقدس، المكان المقدّس عند اليهود، فتوجّه إليه المسلمون بصلاتهم، كما كشف لأهل مكة عن صعوده إلى السماء السابعة عبر القدس للقاء الله.
بسببب هذه التصرفات، واجتهادات مخيريق في تفسير بعض آيات التوراة، اقتنع بأن النبي محمد ليس رسولاً عاديًّا، وإنما هو "المسيح الحقيقي"، الذي ينتظره اليهود منذ آلاف السنين.
وفي هذه الفترة، تحديدًا، كان اليهود على وشك خسارة دولتهم التي أقاموها في فلسطين، بمعاونة الفرس، بعدما نجحت القوات البيزنطية في إعادة الاستيلاء على القدس، مرة أخرى، وإنهاء الحُكم اليهودي فيها، وهي الأحداث التي أشار لها القرآن في آية "غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون".
بسبب هذه الأوضاع الصعبة، اعتقد مخيريق، أن النبي محمد هو أمل اليهود الأخير، في إقامة دولتهم، وإعادة بناء الهيكل، فقاتل في سبيل ذلك حتى مات، دون أن يدري بما حدث في أرض الواقع بعد موته: أن ثروته ساهمت - ولو قليلا - في تدشين دين جديد، سيُغيّر من تاريخ المنطقة بأسرها، ويتبادل أتباعه النزاع على القدس مع اليهود، في الوقت الحاضر.
لماذا خاطر حاخام بحياته من أجل النبي محمد؟ (ميلي جازيت)
غزوة أحد: لماذا قاتل الحاخام مخيريق ومات من أجل النبي؟ (الجمعة)
محمد واليهود: التاريخ المقدس والتاريخ المضاد (بحث)
هل تنبأ الكتاب المقدس بالنبي محمد؟ (أوراسيا ريفيز)