درس نجيب الفلسفة بتعمق في كلية الآداب التي تخرج فيها 1934.
يحكي أنه في هذه الفترة كانت البيئة التي نشأ فيها لا تحترم الأدب، وهو ما دفعه لإنكار كتابته للقصة أمام زملائه خوفًا من التعرض للسخرية.
ربما لعب هذا دورًا في هروبه من الأدب إلى الفلسفة طوال فترة الدراسة بالكلية، وتفضيله الكتابة في مواضيع فلسفية كأفكار سقراط والتحليل العميق للحب ونظريات العقل والمشاعر، وكلها كانت مواضيع مقالاته الرئيسية في جريدة "المجلة الجديدة"، التي بدأ الكتابة فيها وهو في الـ19 من عُمره.
كما رغب في استكمال دراسته العُليا به، وبالفعل سجّل موضوعًا لدراسة الماجستير بعنوان "مفهوم الجمال في الفلسفة الإسلامية" تحت إشراف الشيخ مصطفى عبد الرازق.
يقول عبد المحسن طه في كتابه "الرؤية والأداة، نجيب محفوظ"، إن الإنتاج الأولى لمحفوظ خلال الفترة من 1932 وحتى 1946 كان متواضعًا مقارنة بكتّاب نفس الفترة كطاهر لاشين ويحي حقي ومحمود تيمور.
ويعتبر طه أن سبب هذا التراجع هو أن نجيبًا عاش صراعًا طوال هذه الفترة بين احتراف الأدب أو التخلي عنه لصالح دراسة الفلسفة.
يحكي نجيب: كنت أمسك بيدٍ كتابًا في الفلسفة، وفي اليد الأخرى قصة طويلة من قصص توفيق الحكيم، أو يحيى حقي، أو طه حسين. وكانت المذاهب الفلسفية تقتحم ذهني في نفس اللحظة التي يدخل فيها أبطال القصص من الجانب الآخر. ووجدت نفسي في صراع رهيب بين الأدب والفلسفة. صراع لا يمكن أن يتصوره إلا من عاش فيه، وكان عليَّ أن أقرر شيئًا أو أُجَن.
في النهاية، قرّر محفوظ التوقف عن استكمال رسالة الماجستير والتفرّغ للأدب. لكنه بث روح الفلسفة في كل رواياته.
ظهر سريعًا تأثر نجيب محفوظ بأستاذه مصطفى عبدالرازق، الذي تبنّى مبدأ "مصر للمصريين"،
انعكس على بدايات تجربته الأدبية التي تبنّت محاولة إحياء الثقافة المصرية القديمة بثلاث روايات متتالية.
يقول حسن حنفي في بحثه "الفلسفة والرواية: روايات نجيب محفوظ هي الأكثر اقترابًا من الفلسفة توظيفيًا على لسان الشخصيات أو تعبيرًا عن الأفكار أو تصورًا لرؤى العالم.
عبر عن أزمته الوجودية وشكوكه تجاه العصر الحديث على لسان "كمال عبدالجواد" في روايات الثلاثية. وعن رؤيته للصراع بين العلم والدين في "أولاد حارتنا".
يقول أستاذ الفلسفة رمضان بسطاويسي إن روايات "اللص والكلاب" و"السمان والخريف" و"الطريق" قدمت فلسفة خاصة في مفهوم العدل الاجتماعي، وهل يُمكن استعمال النضال المسلح في تحقيقه؟
وأن "ثرثرة فوق النيل" و"الكرنك" و"ملحمة الحرافيش" و"الحب فوق هضبة الهرم" سعت من منظور فلسفي إلى فضح الاوهام التي ركنت إليها الثقافة المصرية في عهد عبدالناصر، ومحاولاتها العقيمة لبناء مجموعة من القيم التي تسعى لتأكيد سُلطة الدولة.
وفي هذه الروايات، تنتصر رؤية محفوظ الفلسفية إلى أن هذه القيم الثابتة شوّهت الإنسان وأعاقته عن التفاعل مع مجتمعه، فجسّد أبطاله محبطين حيارَى يعيشون صراعات مع واقع أقوى منهم.
في هذه الفترة، تعرضت مصر لنكسة 1967م وعاشت حرية نسبية سمحت لمحفوظ بالتعبير عن الإحباطات أدبيًا، وتحوّل بعضها إلى أفلام سينمائية.
مثّلت أولاد حارتنا نقلة في البنية الفلسفية التي يعتمد عليها محفوظ في بناء الرواية؛ لم يكتف بطرح قضايا وطنه، بل طرح رؤية تتعلّق بمصير البشرية جمعاء.
محفوظ نفسه اعتبر أنه لم يقصد بروايته "محاولة فلسفية للبحث عن العدالة الغائبة". إلا أن نقادًا كثيرين رأوا فيها أبعادًا فلسفية أعمق بكثير.
اعتبر جورج طرابيشي أن أولاد حارتنا محاولة لإعادة تاريخ البشرية من جديد، وفقًا لرؤية نجيب محفوظ الذي اعتبر أن حياة البشر بأسرهم يُمكن تلخيصها في الصراع بين العلم والدين والسلطة، وهو نفس المنطق الذي اعتمدت عليه لجنة نوبل في اختيارها لنجيب محفوظ.
الجائزة تُقدّم للكاتب عن مُجمل أعماله. لكن اللجنة تعرّضت في حيثيات إعلان فوز محفوظ لأولاد حارتنا تحديدًا بعدما وصفتها بأنها "رواية غير عادية تتناول بحث الإنسان الدؤوب عن القيم الروحية.. وتتضمن أنماطاً مختلفة من الأنظمة تواجه توتراً في وصف الصراع بين الخير والشر".
الرؤية والأداة.. نجيب محفوظ، عبدالمحسن طه بدر (كتاب)
القضايا الفلسفية في عالم نجيب محفوظ الأدبي رمضان بسطاويسي (بحث)
نجيب محفوظ بين فلسفة الوجود ودراما الشخصية، وليد يوسف (بحث)
نجيب محفوظ : الأديب الفيلسوف في أصداء السيرة الذاتية، طلعت رضوان (بحث)
الفلسفة و الرواية: دراسة في توظيف الثقافة الفلسفية في أدب نجيب محفوظ، أحمد عبدالحليم عطية (بحث)
نصوص نجيب محفوظ الفلسفية، أحمد عبدالحليم عطية (بحث)
نجيب محفوظ فيلسوفًا، أحمد عبدالحليم عطية (كتاب)