في نهاية القرن الثامن عشر، تجلت مشكلة الإمبراطورية العثمانية من خلال أزمة نظامها العسكري، الذي كان متخلفًا من ناحية التنظيم والمعدات عن الجيوش الأوروبية.
كما أن قسوة الولاة أدت إلى عواقب اقتصادية واجتماعية وخيمة، فغرقت البلاد في الفوضى وضعف وضعها المالي.
وكانت فكرة إصلاح الوضع غير مقبولة، لأنها ستعرض مصالح الإقطاعيين المكتسبة للخسارة، فقاوموا بشدة أي إصلاح.
نتيجة الأزمات، خصوصًا بعد هزيمة العثمانيين في الحرب الروسية بين 1768-1774، ظهر مصطلح "المسألة الشرقية"، حيث بدأت القوى الدولية تفكر في كيفية توزيع أراضي العثمانيين إذا انهارت الدولة.
في معاهدة السلام 1774، حصلت روسيا على حق حماية المسيحيين الأرثوذكس في الإمبراطورية العثمانية. لكن ما نفع العثمانيين، أن بريطانيا وفرنسا دعتا إلى بقاء الإمبراطورية بسبب مصالحهما الاقتصادية في البحر الأبيض المتوسط.
بعد ذلك، شرع العثمانيون في سلسلة إصلاحات رئيسية في أوائل القرن التاسع عشر، حيث بدأ السلطان سليم الثالث محاولة استعادة مالية الدولة وإصلاح الجيش وفق النماذج الغربية، وكان على رأس هذه الإصلاحات مواجهة الانكشارية.
إصلاحات سليم الثالث لم تنقذ الرجل المريض بسهولة، بل طال الأمر حتى حكم السلطان محمود الثاني، ونجاحه في حل مسألة الإنكشارية من خلال إلحاق الهزيمة بهم وإلغائها كليًا في عام 1826.
كما أدخل محمود الثاني سلسلة من الإجراءات التطويرية في الدولة العثمانية فيما يتعلق بالتنظيم الحكومي والعسكري والإداري، وعلى المستوى الشكلي بدأ في ارتداء البدلات الأوروبية وحضور الحفلات الموسيقية والأوبرا والباليه في السفارات الأجنبية.
لكن هذه الإصلاحات أيضًا لم تكف لمنع رجل أوروبا المريض من الموت.
لقرون، حافظت دول البلقان على هويتها العرقية والروحية تحت الحكم العثماني، وحالت الحواجز الاجتماعية والدينية بين الإقطاعيين المسلمين والمسيحيين دون التقارب والاندماج السياسي.
لهذا السبب اندلعت ثورات ضد الحكم العثماني، الأولى في صربيا، تلتها اليونان ورومانيا والبوسنة والهرسك والجبل الأسود حتى عام 1878، فتطورت إلى حرب أوروبية من الدرجة الأولى، في إطار الأزمة الشرقية.
في الحرب، استعادت صربيا والجبل الأسود عدة مدن مهمة وزادتا أراضيهما، وفرضت روسيا، بصفتها المنتصر في حرب مارس 1878، معاهدة سان ستيفانو للسلام على العثمانيين، حيث نصت على إنشاء دولة بلغارية كبيرة يمكن لروسيا من خلالها زيادة السيطرة على البلقان.
لكن القوى الكبرى لم ترض عن القرارات، فوقعت معاهدة سلام جديدة في مؤتمر برلين 1878، وشارك ممثلون من ألمانيا والنمسا والمجر وفرنسا وبريطانيا وايطاليا وروسيا والإمبراطورية العثمانية،
وأنهت قرارات مؤتمر برلين الأزمة الشرقية الكبرى، إلا أن الوضع لم يتحسن كثيرًا بالنسبة للإمبراطورية العثمانية، فقد فقدت معظم أراضيها واختفى معظم نفوذها.
لم تعجب القرارات السلطان عبد الحميد الثاني. وزاد ارتبابه فأغرق البلاد بالجواسيس، وكان هناك حالات إعدام كل يوم، فأجبر ذلك التقدميين الشباب على السفر خارج البلاد، وإنشاء حزب تركيا الفتاة.
زاد الوضع سوءا بسبب الديون التي جرت القوى الأوروبية للتدخل في الاقتصاد حتى أصبحت تركيا شبه محتلة. وكلما زاد الضغط الخارجي زادت قسوة عبد الحميد، وبالتبعية المقاومة الشعبية.
بحلول عام 1891، أنشأ مفكرون وعسكريون أتراك لجنة الاتحاد والترقي في جنيف، لقيادة النضال للإطاحة بالسلطان وإدخال النظام الديمقراطي.
اتصل الضباط الشباب المتمركزون في مقدونيا، وممثلو الأعراق المضطهدة، مثل المقدونيين والأرمن والعرب، باللجنة. فأدت الانتفاضة المعروفة باسم ثورة تركيا الفتاة إلى الإطاحة بالسلطان.
أصبحت الإمبراطورية العثمانية ملكية دستورية، وكان على السلطان المعين حديثًا أن يؤدي اليمين أمام البرلمان لاحترام الدستور، والعمل وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية، والولاء للوطن وشعبه.
كل هذا لم يحقق النتيجة المرجوة، لأن الناس الذين يعيشون تحت الحكم التركي لا يريدون الخضوع للدولة، فلا يزال الصرب والبلغار والعرب والأرمن والألبان لا يقبلون الدولة العثمانية.
اجتاحت انتفاضة ألبانيا التي أصبحت مستقلة، ثم جلبت حرب البلقان الأولى مشاكل جديدة للإمبراطورية، لأن الجيوش الصربية والبلغارية واليونانية والجبل الأسود تضافرت مع بعضها البعض، حيث تضمنت أهداف هؤلاء الحلفاء تقسيم مقدونيا وتحرير تراقيا ومهاجمة أدرنة وإسطنبول نفسها.
بلغت خسائر الجيش التركي بالآلاف، واحتل البلغار أدرنة وارتكبوا مذابح ضد سكان مسلمين في تراقيا، وكانت البلاد غارقة في الفوضى و السلطان عاجزًا تمامًا.
جلبت الحرب العالمية الأولى مصاعب وتهديدات جديدة، حيث أظهرت الهزيمة أنه لابد من إسقاط العثمانيين.
في نهاية الحرب العالمية الأولى، كان "رجل أوروبا المريض" في معسكر الخاسرين، وحددت القوى المنتصرة مصير الأتراك.
دخلت الجيوش الفرنسية والبريطانية إسطنبول، وأعلنت أن المدينة ومنطقة المضيق بأكملها ستنتزع من البلاد وتوضع تحت الإدارة الدولية.
بموجب معاهدة السلام، تم اقتطاع معظم الإمبراطورية العثمانية لصالح فرنسا وبريطانيا.
كان كل هذا مهينًا للإمبراطورية العثمانية، فقررت قوات الإمبراطورية العثمانية المنهارة، غير الراغبة في التصالح مع الهزيمة والتدمير الكامل لبلدهم، معارضة النظام الجديد.
في عام 1920، اندلعت حرب أهلية دعم فيها أحد الفصائل السلطان الذي كان بدوره مدعومًا من بريطانيا العظمى، وعلى الجانب الآخر كان القوميون بقيادة مصطفى كمال أتاتورك.
في 23 أبريل 1920، انتخبت الجمعية الوطنية الكبرى في أنقرة مصطفى كمال رئيسًا، وأصبحت أنقرة منذ ذلك الحين عاصمة الأمة التركية، وبمساعدة السلاح الروسي أوقف مصطفى كمال جيش السلطان.
ومع ذلك، فإن نظام الحكم الجديد هذا لا يمكن أن يعمل طالما كانت هناك حكومة موازية في اسطنبول، بقيادة السلطان العثماني محمد السادس، حيث ادعت الحكومتان، في أنقرة وإسطنبول، السيادة على البلاد.
قضى أتاتورك على هذه المشكلة في 1 نوفمبر 1922، وألغى الإمبراطورية العثمانية، التي قامت منذ عام 1299، ونقل السلطة رسميًا إلى الجمعية الوطنية الكبرى.
رجل أوروبا المريض.. تدهور الإمبراطورية العثمانية (ذا كوليكتور)