ينظر اليمين واليسار إلى التسويات السياسية في مناطق الصراع – ومن بينها الصراع الإسرائيلي الفلسطيني – بطريقتين مختلفتين:
اليمين بوجه عام يرى إن إقامة شبكة مصالح اقتصادية هو الطريق الأفضل للتوصل إلى تسوية سياسية ذات جذور راسخة، يمكن الاعتماد عليها.
اليسار يرى أن تحقيق التسوية السياسية أولًا، هو الطريق إلى تهيئة أجواء تمهد لتنمية اقتصادية.
لو اختبرنا هذين المسارين في القضية الفلسطينية، لعلمنا صعوبة المفاضلة بينهما.
من الجانب الحقوقي، فالفلسطينيون ليسوا ملزمين بربط أنفسهم بعملية اقتصادية لكي يسترجعوا حقوقًا أقرها لهم القانون الدولي.
لكن من الناحية السياسية، فإن استعادة أراض مختنقة اقتصاديًا لم تكن تجربة ناجحة.
سيطرت حماس على غزة وحولتها إلى “أرض مقاومة” أو أرض إرهاب، حسب موقعك من النظر، على حساب الأحوال المعيشية لسكانها.
أما الضفة الغربية فخاضعة في وضعها الاقتصادي الأفضل نسبيًا للسلطة الإسرائيلية، تستطيع أن تخنقه وقت ما شاءت، وهو وضع يجعل الضفة “غير قابلة للحياة”.
أي أننا ندور في دائرة مفرغة. ومخاوف “سياسية” متبادلة. وواقع على الأرض تعتبر فيه إسرائيل أن الخطاب الحقوقي يستخدم لغير غرضه، وتقدم فيه حماس دليلًا على هذا. ويعتبر الفلسطينيون أن إسرائيل تتهرب من السلام، وتريد أن تجني ثمار التعاون الاقتصادي، دون أن تدفع شيئا.
ويستخدم الطرفان فيه الاقتصاد، بالوعد أو الحرمان، رافعة وآلة ضغط سياسية.
لم تكن فكرة التعاون الاقتصادي كمقدمة للسلام جديدة. حتى أشخاص محسوبون على اليسار الإسرائيلي مثل شيمون بيريز طرحوها في التسعينيات. في وقت لم يكن لها فيه أفق. حيث اعتمدت على دائرة واسعة من التعاون الاقتصادي، شملت دولًا في المنطقة لم تكن على استعداد لمجرد مناقشة فكرة السلام مع إسرائيل قبل إتمام تسوية سياسية.
في ظل إدارة جورج بوش الابن، طرحت الفكرة مرة أخرى. مدعومة هذه المرة بقوة متزايدة لليمين الإسرائيلي، بعد الانتفاضة الثانية، وفشل فكرة التسوية السياسية “المرنة” في عهد بل كلينتون، ثم مزيد من الدعم للفكرة بعد وصول حماس إلى الحكم في غزة، وما أعقبه من السيطرة عليها بشكل كامل وطرد فتح منها.
أما بنيامين نتنياهو فتبناها طوال فترة حكمه، وهي الفترة الأطول بين كل رؤساء الحكومات في إسرائيل. معارضوه نظروا إلى ذلك باعتباره طريقة نتنياهو في وضع العصا في العجلة، وتعطيل “السلام”. أما هو فاعتبره الطريق الوحيد لضمان مصلحة الأطراف المختلفة في تحقيق “السلام”.
ورشة البحرين ومشروع مارشال: حتمية المواجهة الأيديولوجية | مينا منير
في الوقت الذي بدا فيه أن “حلول الأرض” استنفدت جميعًا، حيث مرت سنوات أوباما الثماني دون تقدم يذكر، ودون حتى طرح لأي أفكار جديدة بخصوص الصراع، وحيث غرقت المنطقة في موجة اضطرابات كبيرة، جاء دونالد ترامب ليحيي الفكرة مرة أخرى.
حقق ترامب في سنواته الأربع ما لم يحققه أي رئيس قبله طوال نصف قرن، اتفاقيات سلام بين إسرائيل وبين الإمارات والبحرين والمغرب والسودان. وجميعها ليست دول مواجهة.
هذا النجاح – الذي يلقى معارضة كلامية كبيرة في المنطقة – أرغم صناع السياسة على إعادة اختبار الواقع. لقد نجح اليمين مرة أخرى في تقديم نفسه صاحب المسارات الواقعية.
التحرك المصري في غزة، من خلال مشروعات إعادة الإعمار، علامة أخرى على توسع دائرة هذا النهج، وحيازته مزيدًا من القبول.
صحيح أن الظروف بالنسبة لمصر مختلفة، لكن تبقى حقيقة أن هذا الدخول الأول لمصر إلى قطاع غزة منذ حرب ١٩٦٧. وهو دخول تنموي اقتصادي، ويؤمل – في نفس الوقت – أن يكون ضامنًا إعماريًا لتهيئة الأجواء لتسوية سياسية.
ليس هذا فقط. بل إن الرئيس بايدن، الذي قضى الفترة السابقة من رئاسته مشغولًا بنقض سياسات ترامب، ومنها سياسته الناجحة ضد إيران، أتى إلى مسار السلام ولم يستطع إلا أن يستخدم المكابح لإيقاف رغبته العارمة في محو إرث ترامب. والآن يحاول الاستمرار على نفس السياسة.
هذا السلوك لفت نظر وكالة الأسوشييتد برس، فوصفت سعي بايدن إلى البناء على نجاحات ترامب في هذا الصدد بأنه “مواصلة نادرة الحدوث لسياسة تحمل التوقيع المميز لإدارة ترامب من قبل بايدن وغيره من الديمقراط“.
لو وسعت الدائرة، فإن مشروعات كبرى تتم في المنطقة دون صخب، يبدو معها بوضوح – يوما بعد يوم – أن المنطقة اختارت الآن مدخل التعاون الاقتصادي لبناء الواقع السياسي.