هكذا تحدّث مصطفى النحاس عن رفيق عُمره في الكفاح الوطني سعد زغلول.
جمعت الاثنين علاقةٌ وطيدةٌ، بدأت بالعمل سويًا من أجل نيل مصر استقلالها، ثم أصبحا “صديقي عُمر” لم يفترقا أبدًا حتى لحظة رحيل سعد عن الدنيا، بعدما أوصى للنحاس بزعامة الوفد من بعده.
المفارقة الأخرى التي جمعتهما هي تاريخ الوفاة مع اختلاف السنوات، وهو الـ23 من أغسطس.
لفترة طويلة من حياته، عمل مصطفى النحاس محاميًا، لفتت انتباهه الأحكام التي كان يُصدرها القاضي المستشار سعد زغلول، بسبب ما أنبأت به من إلمام بصحيح القانون ورغبة واضحة في تتبع الحق.
وفقًا للنحاس، ازداد إعجابه بسعد زغلول عندما عُيِّن سعد وزيرًا للمعارف، ولاحظ النحاس أنه ينتمي إلى فئة مختلفة من وزراء ذلك العهد.
بذل سعد جهودًا ضخمة من أجل نشر الكتاتيب في المحافظات المختلفة، وتبنّى أجندة واضحة لإصلاح التعليم.
في ذلك الوقت، جرى تعيين النحاس قاضيًا في محكمة ميت غمر.
ولمّا علم النحاس أن سعد زغلول سيزور ميت غمر لتفقد المدارس، حرص على استقباله بنفسه بصفته قاضي المدينة.
وكان هذا أول لقاء بين الرجلين.
في نوفمبر 1918م، شرع سعد زغلول في تأليف "الوفد المصري"، الذي سيُسافر إلى بريطانيا للتفاوض مع بريطانيا بشأن الجلاء.
وقع اختيار سعد على القانوني النابه مصطفى النحاس، عضو الحزب الوطني، والذي ذاع صيته في المحاكم المصرية، بما عُرف عنه من بلاغة ومعرفة قانونية واسعة.
في بريطانيا، امتدّت أواصر الصداقة بين الرجلين، وأصبح النحاس سكرتيرًا عامًا للوفد، لا يتوقف سعد عن الاستماع لنصائحه.
بعدها لعب النحاس دورًا بارزًا خلال ثورة 1919، وبرغم أن عمله كقاضي يُلزمه بعدم الاشتغال بالسياسة، إلا أنه كان يوزّع المنشورات على المواطنين يحضّهم فيها على الثورة.
وفي 1921م، ازدادت قوة هذه العلاقة بين الرجلين، بعدما اعتقلتهما السُلطات الإنجليزية ونفتهما سويًّا إلى جزيرة "سيشل".
عام 1921م، وقع الانشقاق الشهير في الوفد، بسبب الخلاف الذي جرى بين سعد زغلول وبين عدلي يكن زعيم حزب الأحرار الدستوريين.
أراد يكن، بصفته رئيسًا للوزراء، أن يقود مفاوضات الجلاء مع الإنجليز، وهو ما رفضه سعد زغلول مُطالبًا بأن تكون رئاسة المفاوضات له وحده.
عندما بحثت الهيئة العُليا للوفد هذه المسألة، انتصرت لرأي يكن على سعد، وطلبت من باقي أعضاء الوفد عدم اعتراض طريق الوزارة في التفاوض، وهنا أسكت سعد صوت الأغلبية وأصر على فرض رأيه على الجميع.
وعندما اعترض الوفديون على طريقته فصلهم واعتبرهم "منشقين" عن الحزب.
ساهمت هذه الأزمة بشدة في التقريب بينه وبين النحاس الذي أيّده على طول الخط، في وقتٍ كثرت فيه الأغلبية ضد رأي سعد.
في نوفمبر 1924م، شكّل سعد زغلول ما عُرف في التاريخ المصري بـ "الوزارة الشعبية الأولى".
هي الوزارة التي تشكلت كنتيجة لأول انتخابات تشهدها مصر عقب عودة سعد والنحاس من النفي في جزيرة سيشل.
شارك فيها الوفد لأول مرة كحزبٍ رسمي عُرف بـ"حزب الوفد النيابي"، اختار الأعضاء المؤسسون سعدًا لرئاسته والنحاس في منصب النائب.
وبالطبع، لم يكن زغلول ليترك ابنه الروحي بعيدًا عن تشكيل هذه الوزارة، فعيّن النحاس وزيرًا للمواصلات.
اعترض الإنجليز على وجود النحاس بدعوى أنه "يتبع سياسة معادية لنا، ولا يسعى للتفاهم مع بريطانيا العظمى أو يقيم علاقات ودية معها"، لكن زغلول أصرّ عليه.
لم يُكتب لهذه الوزارة الاستمرار أكثر من 9 أشهر، بعدما استقال زغلول من منصبه في أعقاب أزمة اغتيال السير لي ستاك الحاكم الإنجليزي في السودان.
في 17 نوفمبر 1927، انعقد مجلس النواب المصري، لأول مرة بدون سعد زغلول بسبب وفاته.
في بداية الجلسة، أجرى المجلس اقتراعًا لاختيار خليفة سعد زغلول، أسفر عن فوز مصطفى النحاس بـ169 صوتًا.
أتى هذا التصويت استجابةً لرغبة سعد التي أعلنها قبل رحيله، في أن يتولى النحاس منصبه خلفه، بالرغم من اعتراض زوجته صفية زغلول على ذلك، ورغبتها في اختيار أحمد ماهر بدلاً منه.
عندها، أُفسح للنحاس المجال، ليخطب في المجلس باعتباره الزعيم الجديد للأمِّة وخليفة لسعد زغلول، فرثاه قائلاً: "ما كنا نحسب يوم وقف سعد آخر الدورة الماضية أننا كنا نودع روعة العظمة في جلال السن ترنو إليها العيون وتصغى لها القلوب وتتطامن عندها الأرواح، واليوم وقد خلت منصة الرياسة من سعد فهي تذكر له بالحكمة الوطنية الصافية".
وكانت بداية حقبة جديدة من حياة مصطفى النحاس تحوّل فيها من خليفة زعيم إلى زعيمٍ للأمة قاد الوفد باقتدار حتى اندلاع ثورة يوليو.
كتاب “مصطفى النحاس”، لعباس حافظ
كتاب “مصطفى النحاس ودوره في السياسة”، لصلاح عبود العامر