لا يمكن التعرض لسياسات السادات مع الجماعات الدينية، والدعاة، بمعزل عن الظروف التي سادات حينها. داخليا. وإقليميا. ودوليا.
أعادت الدولة في عهد السادات صياغة أولوياتها لتُقدِّم الدين كقيمة مركزية كُبرى يجب أن تدور عناصر المجتمع بأسرها حوله، باعتباره حاميا لـ قيم العائلة المصرية.
في نفس الوقت الذي كان السادات يقدم نفسه للعالم في صورة الزعيم المنفتح، والساعي إلى السلام مع إسرائيل، ويتعرض داخليا لانتقادات حادة من قبل اليسار والإسلاميين بسبب سياسته تلك.
البراند الذي استخدمه السادات كان “دولة العلم والإيمان”.
هنا نتعرّف على ملابسات صعود الشعار.
الحكاية في دقائق
عقب هزيمة 1967م، فقد المصريون الثقة في شعارات دولة ناصر. استخدم السادات هذا الشعور في إطار الصراع الداخلي بينه وبين دائرة ناصر، حيث لجأ إلى إضعافهم باستخدام الخط الثالث في مثلث الصراع السياسي المصري، وهو جماعات الدين السياسي.
بالإضافة إلى ذلك، شهدت فترة السبعينيات ثلاثة أحداث كبرى:
الحدث الأول: الثورة الإسلامية في إيران، التي أعادت الإسلام الراديكالي إلى الواجهة من جديد، وباتت حلمًا يستحقُّ السعي وراء في عقل كل إسلاميي العالم.
الحدث الثاني: اقتحام الحرم على يدي جماعة جهيمان العتيبي، تلك الحادثة رغم فشلها ساهمت في تعطيل جهود التحديث في السعودية. يقول ولي عهد السعودية محمد بن سلمان "قبل هذا الحادث، كنا نعيش حياة طبيعية مثل سائر دول الخليج، وكانت النساء تقود السيارات، وكانت في المملكة دور عرض سينمائي".
الحدث الثالث: غزو السوفييت لأفغانستان وما نتج عنه من اندلاع حُمى الجهاد ضد السوفييت في أفغانستان. أشعلت الولايات المتحدة شرارة "الجهاد المقدس"، واحتضنتها دول عربية كثيرة مثل مصر والسعودية، التي أعلن قادتها دعمهم العلني والرسمي لـ"الجهاد الإسلامي الأفغاني".
اكتسحت جماعات الإسلام السياسي الجامعات المصرية.
بدأ انتشار الحجاب في الشوارع، وباتت الأشرطة والكتيبات الدينية في متناول الجميع.
أعاد السادات رسم صورته بما يتواكب مع هذه التغيرات المجتمعية. أعلن نفسه "رئيسًا مُسلمًا لدولة مسلمة". ربما احتاج إلى هذا بشكل خاص بعد قراره بالذهاب إلى الكنيست، وبدء عملية السلام مع إسرائيل. وهو القرار الذي تحالف ضده الخصوم: اليسار والإسلام السياسي
داومَت الصُحف على نشر صوره وهو يقرأ القرآن ويُصلّي بِانتظام حتى علت "الزبيبة" رأسه، وتلقّب بـ"الرئيس المؤمن".
توّج السادات كل هذا بإعلانه تدشين "دولة العلم والإيمان" الخاصة به.
اعتمدت هذه الدولة على قطبين أساسيين عُرفا بحماسهما الشديد للسادات وانتقادهما الحاد للتجربة الناصرية، هذان الرمزان، هما: الدكتور مصطفى محمود، والشيخ محمد متولي الشعراوي.
كتاب "القرآن.. محاولة لفهم عصري"، جمّع فيه دكتور مصطفى مجموعة مقالات لتفسير القرآن نُشرت في مجلة "صباح الخير"، خلق حالة من الجدل فور طرحه، بعدما تعدّدت الانتقادات الموجهة إليه، أبرزها من الدكتورة عائشة بنت الرحمن.
لكنه صنع بداية العلاقة بينه وبين السادات، بعدما تلقّى منه مكالمة تُشيد بمحتوى الكتاب، ووقتها كان السادات لا يزال نائبًا لعبدالناصر.
بسبب هذا الكتاب تعدّدت اللقاءات بين الرجلين، لقاءات أظهر فيها السادات إعجابه الكبير بـ"منبر الإيمان" على حدِّ وصفه لمصطفى محمود.
وفي مذكراته، استفاض مصطفى محمود في التعبير عن عُمق علاقته بالسادات، وتطهيره من كل خطايا التجربة الناصرية بالرغم من أنه كان أحد أركانها الرئيسية بسبب ما أسماه "عبقرية الابتعاد عن الصراعات".
في المقابل، قدّم السادات دعمًا غير محدود لصديقه المفضل؛ أعلن له رغبته في تدريس كتبه في المدارس، عرض عليه تولي وزارتي الثقافة والأوقاف، ثم رئاسة مجلس إدارة دار الهلال، فرفض خائفًا من عدم قُدرته على تحمّل مسؤوليتها، لكن هذا الرفض لم يضعه خارج دائرة الضوء.
في العهد الجديد، انتهت قرارات المنع التي كان تُلاحق كتب مصطفى محمود، بعدما تبنّتها الدولة شخصيًا، أعلن السادات في مجلس الوزراء "كل كتب مصطفى محمود تُنشر فورًا بصورة لائقة".
وهنا يُمكن فهم أسباب حالة الغزارة التأليفية التي عاشها مصطفى محمود في عصر السادات، بعدما لم يُقدِّم إلا كتابين فقط في عهد عبدالناصر.
تواءمت أغلب كتب محمود مع خُطى السادات السياسية، ففي خضمِّ معاركه مع الماركسية، وضع محمود كتابيه "الماركسية والإسلام" و"لماذا رفضت الماركسية؟"، ودخل في اشتباك فكري مع آخر الضباط الأحرار خالد محيي الدين بسبب دفاعه عن الماركسيين، آخر كتلة سياسية مدنية شكّلت خطرًا على السادات.
سُمِح له بإقامة مسجده الشهير "مصطفى محمود" في واحد من أهم شوارع القاهرة، وجرى تدعيمه بكبار أئمة الأوقاف والأزهر ما أكسب المسجد زخمًا كبيرًا حوّله إلى بؤرة دينية لا يُستهان بتأثيرها حتى اليوم.
ويعترف محمود في مذكراته، أن برنامج "العلم والإيمان" وُلِد على يدي الرئيس السادات، ووصف البرنامج بأنه "شاهد حي على دولة السادات وعصره".
وعندما بدأ البرنامج حمل اسم "العلم والإيمان"، وهو الشعار الذي استخدمه السادات لوصف دولته الجديدة في خطاباته للشعب خلال فترته الأولى كرئيس للجمهورية.
أسّس هذا البرنامج نقطة فاصلة في العلاقة القوية التي جمعت بين الرجلين، حققت استفادة جلية للطرفين؛ شُهرة كبيرة لمحمود استغلها لتبرير قرارات السادات.
أيّد محمود السادات على طول الخط في كل المراحل الصعبة التي مرَّ بها وعالجها بـ"دهاء السياسي المحنّك"، على حد وصفه، مثل تصفية مراكز القوى وخضوعه التكتيكي لعبدالناصر، وحتى إقدام السادات على عقد صُلح مع اليهود (يدعوهم مصطفى محمود في كتبه بـ"أهل صهيون") خلافًا لكل ما دعا له في مقالاته، اعتبرها محمود خطوة جريئة برّرها للسادات بأنها "لا يستطيع أحد أن يُقدم عليها غيره".
بالمثل، رُفِع الشعراوي إلى دائرة المجد، وتحوّل من شيخ مغضوب عليه إلى رجل الدين الأول في مصر/ السادات.
أُفسحت له مساحات شاسعة في الإعلام، وكان يظهر في التليفزيون الرسمي أكثر من رئيس الجمهورية نفسه، وعلى الأرض سُمح له بإلقاء الدروس في مساجد القاهرة المركزية، وحقّق الرجل شعبية جارفة جعلته مؤهلاً لتقديم دعم سياسي للسادات في لحظات حُكمه المفصلية.
في مذكراته، يقول الشعراوي، إن السادات كان رئيس "لديه نزعة دينية"، وإنه (السادات) كان يعتمد عليه (الشعراوي) لنشر هذا الوعي الديني داخل العسكريين، فكلّفه بإعطاء محاضرات فقهية لضباط المخابرات!
كما أمر السادات الشعراوي بالسفر إلى السعودية لتنقية أجواء الخلافات التي قامت بين عبدالناصر والملك فيصل، وهي المهمة التي انتهت بنجاحه في إعادة البعثة الأزهرية للسعودية وكانت مقدمة لعودة العلاقات بين البلدين.
لم يعد الشعراوي من السعودية إلا بعد انتهاء حرب أكتوبر بـ3 أعوام، عقب تعيينه وزيرًا للأوقاف.
جرت عملية تلميع كبرى للشيخ الشعراوي، عبر برنامج "نور على نور"، وكان الظهور الأول له عام 1972م. كان يُبث أيضًا في عددٍ من الدول الخليجية، ما ساهَم في تعزيز مكانة الشعراوي في الدول العربية.
حظي البرنامج بدعمٍ رئاسي مباشر، ففي أحد الحوارات سُئلَ السادات "ماذا تشاهد في التليفزيون يا سيادة الرئيس؟ فأجاب: الأفلام الأمريكاني.. والشيخ الشعراوي!
منح السادات الشعراوي مكانة دينية لا تُضاهي فاقت كل شيوخ الأزهر مجتمعين، فبحسب الشعراوي، أنه كان يبعث مظالم بعض الناس إلى السادات فيوقّع عليها بالقلم الأحمر قائلاً "أنا لا أردّ شفاعة الشيخ".
وفي المقابل، وقّع الإمام شيك تأييد على بياض للسادات طوال فترة رئاسته، دعّم مبادرة الصُلح مع إسرائيل، واعتبر أن السادات "رجل دولة" يعرف كيف يُلاعب إسرائيل، وفي أول لقاء جمعه به عقب عودته من إسرائيل، قال له "قبّل الله مسعاك، وجازاك على نيتك".
وعندما فرضت الدول العربية مقاطعة على مصر، انتقدها، وقال في حوار: "أنا (يقصد مصر) الذي أدفع الثمن، أنا الذي لا يوجد عندي بيت إلا وفيه ضحايا وفيه دم، لما هؤلاء -يقصد بقية العرب- لم يعملوا أي شيء، فالذي عليه العتب هو الذي يعمل هكذا حتى يحمي نفسه"!
وحين وقعت التظاهرات الشعبية ضد السادات في يومي 18 و19 يناير 1977م احتجاجًا على قراراته الاقتصادية، كان الشعراوي أول من انتقدها، اعتبرها "فتنة ومنحة"، وخطب في التليفزيون والجامع الأزهر لحثِّ الناس على عدم المشاركة فيها؛ حذّر العمال من الانسياق وراء "الشعارات المزيفة" والطلاب من الاستماع لـ"مثيري الشغب".
وفي العام التالي، تعرّض الشعراوي لاستجوابٍ في البرلمان، قال عن السادات: "والذى نفسى بيده لو كان لى من الأمر شىء لحكمت لهذا الرجل الذى رفعنا تلك الرفعة، وانتشلنا مما كنا فيه إلى قمة ألا يسأل عما يفعل".
وحتى بعد خروجه من وزارة الأوقاف، ظلَّ نجمًا لامعًا في دولة السادات، مؤيدًا لكافة قراراته.
حينما أمر السادات بتنفيذ اعتقالات سبتمبر 1981، دافع عنها بقوله "هو يضرب بشدة كل من يهدد بقاءه في الحُكم، وهذا ما يفعله كل حاكم ثوري، فهو يُحافظ على حُكمه".
اقترح عضو مجلس الشعب محمود أبو وافية، المقرّب من السادات، في مجلس الشعب تنظيم استفتاء يمنح رئيس الجمهورية لقب "سادس الخلفاء الراشدين"، بعد الخليفة الأموي عُمر بن عبدالعزيز!
أحال المجلس الطلب للجنة مختصة، لكن الأمور لم تسر أبعد من هذا، حيث اغتيل السادات على أيدي إسلاميين كفّروا دولة "الإيمان" الخاصة به.
مذكرات مصطفى محمود، السيد الحراني (كتاب)
الشعراوي الذي لا نعرفه، سعيد أبو العينين (كتاب)
مذكرات جمال البنا، السيد الحراني (كتاب)
اعترافات مصطفى أمين، بين عبدالناصر، وهيكل، والسادات (كتاب)