هل تتخيل أن أقدم الحروب التي عرفتها البشرية كانت مرتبطة بالسيطرة على مصادر المياه؟
وفق تصورات جديدة، شهدت منطقة وادي النيل التي تشمل مصر والسودان، على ما يبدو أقدم حرب مسجلة في تاريخ البشرية للصراع على منطقة جغرافية بسبب تغير المناخ من الجفاف الشديد إلى الرطوبة الشديدة قبل أكثر من 13,000 عام (طالع تفاصيل كشف جبل الصحابة هنا).
بخلاف جبل الصحابة، وقعت أول حرب معروفة على المياه حوالي 2500 ق.م بين مدينة “لجش – تل الهبا حاليًا” ومدينة “أوما – تل جوخة حاليًا” في أقدم الحضارات الإنسانية: الحضارة السومرية بالعراق.
تنازعت المدينتان على منطقة عُرفت في التراث السومري بـ “حافة الجنة” الواقعة على نهر دجلة الشهير لأكثر من 150 عامًا، مما دفع أحد ملوك مدينة لجش إلى تحويل مجرى المياه وحرمان مدينة أوما من مصادر الماء، ليكمل ابن الملك مشروع والده ويقطع إمدادات المياه تمامًا عن المدينة.
السيطرة على مصادر المياه ظلت طوال التاريخ عاملًا حاسمًا في تغيير مجرى الحروب: الدولة الآشورية مثلًا – بعد سومر بأكثر من 1500 عام – كانت تسمم آبار المياه أثناء حروبها التوسعية في المنطقة.
ببساطة، تكمن الأزمة في حقيقة لا يدركها أغلب البشر “الندرة الشديدة للمياه العذبة على كوكب الأرض”.
الأرض معروفة بـ “الكوكب الأزرق” بسبب لون المياه الظاهر بوضوح على خريطتها. لكن ما يقرب من 97.5% من المسطحات المائية مالحة أو ملوثة.
أكثر من 145 دولة – خُمسا سكان العالم – تتشارك نحو ثلاثة أخماس المياه المتدفقة من الأنهار فيما يشكل 263 حوضًا نهريًا. ولذلك تتقاسم دولتان أو أكثر نفس المصدر المائي.
كنتيجة طبيعية، تعتمد العديد من البلدان على الموارد المائية التي تنشأ خارج حدودها الوطنية. مثلًا، 34% من موارد المياه في الهند، و76% من موارد المياه في باكستان تأتي من خارج الدولتين.
يقدر البنك الدولي حاجة الفرد من المياه بـ 100 – 200 لتر يوميًا للاحتياجات اللأساسية فقط. أما لو أُضيفت الاستخدامات الأخرى – مثل الزراعة وإنتاج الطاقة – فإجمالي المتوسط السنوي للفرد 1,000 متر مكعب.
ووفق البنك الدولي، لا يستطيع مليار شخص حول العالم الحصول على المياه الصالحة للشرب، وهي مشكلة ستزداد مع نمو السكان من 6.8 مليار الآن إلى حوالي 9 مليارات بحلول 2050.
سد اليانغتسي.. عملاق الصين الذي أبطأ دوران الأرض
لا تقتصر حروب المياه على دول أفريقيا والشرق الأوسط الفقيرة. فمع نهاية القرن 19، تنازعت المقاطعات الغربية في الولايات المتحدة على مصادر المياه،
عمدة لوس أنجلوس فريد إيتون توصل إلى خطة لتحويل المياه من وادي أوينز إلى لوس أنجلوس عبر قناة إمداد مائي.
اكتمل المشروع بحدود عام 1913. وحصلت لوس أنجلوس على حق المياه من الوادي بحيل وضغوطات سياسية، وكانت النتيجة معاناة المزارعين في الوادي إلى حد الجوع.
وفي 1924، حاول المزارعون تدمير القناة لكن دون جدوى.
وفي 1935، أرسل حاكم أريزونا 100 جندي من الحرس الوطني لمنع كاليفورنيا من بناء سد باركر على نهر كولورادو.
وتدخلت المحكمة العليا الأمريكية لصالح أريزونا مشيرة إلى أن كاليفورنيا تتحكم في المياه بشكل غير قانوني.
رغم ذلك، أصدر الكونجرس قانونًا يلغي قرار المحكمة العليا ويسمح لكاليفورنيا بالاستمرار في خططها المائية!
يطلق العراقيون على الفرات “النهر العظيم”. لكن روافده تنبع من خارج العرق؛ إيران وتركيا تسيطران على منابع الدجلة والفرات معًا.
تركيا تعمدت منذ مطلع 2021 تقليل المياه المتدفقة إلى المناطق التي يعبرها الفرات في سوريا والعراق لبناء السدود، لتتسبب في انخفاض منسوب المياه حتى تحول الفرات لمجرد مجرى صغير بحسب الصور الأحدث.
ويخشى العراقيون من جفاف تام للنهر بعد أن أصبحت مساحات كبيرة من الفرات الذي يمر بالأراضي السورية والعراقية شبه جافة.
ولأول مرة في تاريخه، انخفض منسوبه بمعدل أكثر من 5 أمتار، خاصة في المنطقة الجنوبية من العراق، فالمناطق التي يرويها الفرات في سوريا والعراق والتي عرفت طوال التاريخ بـ “الهلال الخصيب” معرضة الآن لتقلص شديد في الأراضي الزراعية واتساع دائرة التصحر.
س/ج في دقائق: أزمة المياه في العراق .. تركيا وإيران وجفاف الرافدين
طول النيل 6,700 كيلو متر تقريبًا، ويتصدر قائمة أطول أنهار العالم. مع ذلك، لا ينقل النيل الكثير من الماء رغم تقاسمه بين 11 دولة.
بالإضافة، يتسم تدفق النيل بعدم الاستقرار؛ لأن مصدره الغالب أمطار مدفوعة برياح موسمية غير مستقرة في مرتفعات إثيوبيا.
يغطي مساحة ضخمة نتيجة لطوله من قلب أفريقيا حتى المصب في البحر المتوسط، لكنه لا ينقل كميات قادرة على تغطية الكثافة السكانية لدول حوض النيل (+450 مليون نسمة يعتمد منهم 200 مليون على النيل مباشرة).
تصاعدت أزمة “التوزيع العادل لمياه النيل” بعد بدء إثيوبيا بناء سد النهضة، حيث تعتمد دولتا المصب (مصر والسودان) على 86% من الروافد الإثيوبية للنيل،
وعلى عكس دول المنبع التي تعتمد على مصادر مائية أخرى “الأمطار مثلًا”، فاعتماد مصر على النيل يصل إلى 97% من إحتياجها المائي.
الأمم المتحدة حذرت أن مصر ستواجه أزمة ندرة مياه كبرى بحلول 2025. هذا لا يتعلق فقط بالصراع الحالي مع إثيوبيا على توزيع المياه، فالتزايد السكاني المرعب في العقود الاخيرة، بالإضافة إلى الإهدار المفرط تساهم في تصعيد الأزمة.
تستخدم مصر 80% من مواردها المائية في القطاع الزراعي، ومع ذلك فمستويات الإنتاج المحلي أقل بكثير من الطلب، حيث تستورد 18 مليون طن سنويًا من الحبوب، مما يجعلها أكبر مستورد حبوب في العالم.
ومن ناحية أخرى، يتزايد سكان مصر بمعدل يبلغ 1.8% سنويًا، ومن المتوقع أن يصل في 2050 إلى 140 مليون نسمة (تواجه إثيوبيا نفس المشكلة، الزيادة السكانية فيها تصل إلى 3% سنويًا مما يعني زيادة في الطلب على المياه).
وتشير الأرقام إلى أن حاجة مصر وإثيوبيا للمياه أكثر مما هو متاح حاليًا، ومع ذلك يكشف الصراع الأخير على المياه عن قلة الكمية المتاحة مستقبلاً لكلا الطرفين.
السيسي ينهي مرحلة “اللعب على البارد” في سد النهضة.. خيارات الحل العسكري وعواقبه | س/ج في دقائق
النيل مهدد أيضًا بالعديد من المخاطر البيئية بعيدة المدى، وعلى رأسها “تغير المناخ”، الذي سيؤدي لانخفاض تدفق الروافد المائية للنيل، وزيادة احتمالية التصحر والجفاف.
ويشير الخبراء إلى أن زيادة السدود على النهر ستكون مسؤولة عن تدهور “مستجمعات المياه” التي تعمل على تجميع الأمطار، المصدر الرئيسي لمنابع للنيل.
من ناحية مصر، كشفت وزارة الري عن عدد من المشاريع المستقبلية للحد من هدر المياه، أبرزها إعادة تأهيل القنوات والمصارف بتكلفة 5 ملايين دولار، مما سيسمح بتدفق أفضل للمياه والحد من فقدها، والتوسع في بناء محطات تحلية المياه ومعالجة المياه، بالإضافة إلى توجيه المزارعين لاستخدام الأنظمة الحديثة في الري.
تشير الأرقام السابقة لوجود نقص فعلي في كمية المياه التي تحتاجها مصر بعيدًا عن تداعيات أزمة سد النهضة نفسها (تعاني مصر حاليًا من نقص في المياه يصل إلى 20 مليار متر مكعب سنويًا)، ولذلك يشير الخبراء أن حرب المياه هي الحرب التي ستواجه مصر مستقبلًا.
1- “حروب المياه:” الكفاح من أجل أغلى موارد الأرض
3- حقوق المياه ومعارك المياه: منع النزاعات وحلها قبل أن تغلي
5- الصراع على نهر النيل: مستقبل النزاعات المائية العابرة للحدود على أطول نهر في العالم