باحث بجامعة لوزان - سويسرا
حين يسقط لص محترف في قبضة الأمن، يكون أول سؤال: “عملتها ازاي دي؟”.
قد يعكس السؤال قدرًا مبطنًا من الإعجاب بمهارة اللص. لكن الأهم هو الحاجة لمعرفة مواطن الضعف في المنظومة الأمنية، التي استغلها اللص، والتي يعرفها هو أكثر من أي أحد.
في حالة الجاسوس فولفجانج لوتز (Wolfgang Lotz)، كانت الإجابة باختصار هي استغلال ما أسماه بـ “منظومة النفاق الاجتماعي في مصر”.
في هذه النقطة تحديدًا، وبعيدًا عن التفاصيل الدقيقة لعملياته، يوفر لنا فولفجانج لوتز من خلال مذكراته صورة غنية عن مصر الستينيات من منظوره: مواطن قوتها وضعفها، بأسلوب ساخر ومثير، تستحق أن نعرفها، ليس فقط بغرض الاستمتاع، ولكن لاستخلاص العبر، كما قال ضابط المخابرات الذي كشفه، والذي أقر بأنه تعلم منه الكثير.
فإليك التفاصيل التي تُنشر لأول مرة لقارئ اللغة العربية، من نسخة مذكرات فولفجانج لوتز النادرة، والتي نفذت من الأسواق سنة 1972، بالإضافة إلى وثائق مخابراتية مختلفة.
في المقال السابق من سلسلة “نازيون بين القاهرة وتل أبيب” وقفنا عند صدمة الإسرائيليين حين شاهدوا صواريخ قاهر وظافر في عرض عسكري بالقاهرة.
كان الأمر يحتاج حلًا سريعًا: إما بالضغط السياسي على ألمانيا الغربية لسحب جحافل العلماء النازيين من مصر، أو التدخل المباشر بإرهاب العلماء وقتلهم إذا استدعى الأمر.
وحينها رجّح الموساد الخيار الثاني.
كانت الحاجة قائمة لمعرفة من هم هؤلاء العلماء، وأعدادهم، كأولوية كبرى لكل أجهزة الأمن القومي الإسرائيلي الذي رأى أن إسرائيل معرضة لتهديد وجودي حقيقي بسببهم.
رأس الحربة كان جاسوسًا له خبرة طويلة في المخابرات. يعرف مصر جيدًا، ويملك شخصية ستساعده على اختراق النازيين..
كان فولفجانج لوتز.
فولفجانج لوتز ألماني الأصل، من مواليد مانهايم 1921. كانت والدته يهودية، ولما انفصلت عن زوجها الألماني، أخذته إلى منطقة الانتداب البريطاني في فلسطين، حيث نشأ كيهودي. بالإضافة إلى ألمانيته.
أجاد لوتز العبرية، وإلى حد ما العربية، ودرس التمثيل في تل أبيب، ثم خدم في الجيش البريطاني، حيث ساعد في الترجمة والتحقيق مع الجنود والضباط النازيين، ثم خدم في المخابرات العسكرية الإسرائيلية حيث شارك في العدوان الثلاثي، والتقى بالمصريين وجهًا لوجه هناك لأول مرة.
ببنيته الألمانية ومهاراته في الخداع، تم ترشيح فولفجانج لوتز لمهمة زرعه وسط النازيين في مصر.
لم يملك الإسرائيليون رفاهية الوقت لتثبيت ساتر “الضابط النازي الهارب” بهوية جديدة، فقرروا استخدام فولفجانج لوتز لاسمه وبياناته كما تظهر في سجلات ألمانيا، مع إخفاء كل ما يخص هجرته لإسرائيل، وترك فجوة كبيرة حول حياته أثناء الحقبة النازية؛ لتشجيع خيال من يبحثون وراءه حول حقيقة ارتباطه بنظام هتلر.
أُرسل لوتز إلى ألمانيا، حيث اشترى اسطبل خيول، وبدأ في تجارتها لمدة عام (وبالطبع كان زبائنه شركات تابعة للموساد، قامت بتنشيط تجارته)، حتى صار “مليونيرًا”، ليقرر زيارة مصر في رحلة سياحية.
نازيون بين القاهرة وتل أبيب (2): برنامج الصواريخ الألماني في مصر | مينا منير
على متن الباخرة المتجهة إلى الإسكندرية في 1961، يبدأ فولفجانج لوتز.
ومن هنا، يبدأ لوتز سرد الكثير من التفاصيل عن مصر والمصريين. فعلى تلك الباخرة، بدت على الثري لوتز مظاهر البذخ، بكم كبير من الحقائب والهدايا.
يقول لوتز إن رجال النفوذ السياسي والاقتصادي حينها كانوا يشتمون رائحة النقود والهدايا من بعد، فبات كثيرون منهم صيدًا سهلًا.
ثم يذكر أول درس تعلمه منذ وصوله على متن الباخرة إلى القاهرة: إن أسهل من يمكن تطويعهم لجمع المعلومات لك في مصر هم من يبدؤون حديثهم بمدح أخلاق وعادات وتقاليد المجتمع.
“الذي يبدأ حديثه بتذكيرك، وبدون مبرر أو سياق، أنه شريف هو تحديدًا الموظف الأمثل الذي يمكن شراؤه بزجاجة شمبانيا فرنسية. أما من يبدأ حديثه بالآيات الدينية ويكلمك عن تدينه، فهذا لا تحتاج أن تستدرجه لجمع المعلومات بل يمكنك أن تكلمه مباشرةً في صفقة تجسس، فهو شره ومعدوم الأخلاق ويتخذ من الدين ستارًا”.
هكذا سهل النفاق الاجتماعي في مصر، سواء على مستوى الأفراد المتدينين أو مدعي الشرف في الهيكل الوظيفي، مهمة فولفجانج لوتز بشدة.
كانت هدايا الخمور والعطور والسهرات لمطلع الفجر وسيلته لتجنيد جيش من الموظفين ورجال النفوذ، فصار لقبه: جاسوس الشمبانيا (The Champagne Spy).
نازيون بين القاهرة وتل أبيب: (1) أولريخ شنافت | مينا منير | دقائق.نت
في مصر الستينيات، يخبرنا فولفجانج لوتز أن الجميع يتجسس على الجميع.
لا شارع يخلو من شحاذ أو بائع متجول أو مخبر يعمل لصالح صلاح نصر.
منازل الأجانب جميعها تحتوي على كاميرات صغيرة وهواتفهم بها سماعات للمراقبة.
والغريب في مصر تحديدًا أن الجميع يعرف ذلك: فالمواطن يعرف المخبر الذي يتلصص عليه، والمخبر يعرف أن المواطن يعرفه.
والأجنبي يعرف تحديدًا مكان الكاميرا وجهاز التنصت حتى أنه حينما يريد الحديث بأريحية يبتعد عن أماكنها أو يطفئها مؤقتًا،
وإن طال الأمر سيجد رجالًا من “مصلحة التليفونات” أو “كهربائي” في منزله اليوم التالي لإصلاح عطل ما هو لم يُبلغ به، ولكنه أيضًا يعرف أن ذلك الفني تابع للأمن.
المنظومة الأمنية المنقولة حرفيا من كتالوجات ألمانيا الشرقية لم تفاجئه. لكن ما أثار تعجبه ذلك النفاق الجمعي، والذي فيه الجميع يعرف عن تلك المنظومة، لكنها مستمرة وهم مستمرون معها بشكل فريد في العالم.
أما الحلقة الأقوى والفريدة أيضًا في مصر، فهي تلك المهنة المبهمة والخطيرة في رأيه: البواب.
البواب رجل يعيش حياة رثة، في مدخل العمارة، لا تتسق واجباته وسلطاته مع ما يمكن أن يُسمى في أوروبا بالـ Concierge، وإنما هو حالة تلخص مصر:
رجل يعرف كل شيء عن كل شقق العمارة، يظهر كمجرد شخص رث الثياب يغسل مدخل العمارة لكنه يملك السلطة الاجتماعية لإصدار الأحكام على من هو شريف ومن هو منحل،
بل ويعمل بشكل مباشر مع أجهزة الأمن التي تعطيه شعورًا عظيمًا بالأهمية.
يشكل البوابون حلقة قوية منيعة. فإن استطاع الجاسوس تجنيدها، يمكنها أن تنقلب بشكل خطير على من خلق ذلك الوحش. حالة باختصار لا تراها إلا في مصر، بحسب لوتز.
في وقتٍ قصير، عرف فولفجانج لوتز مدخل دعاة الاشتراكية الذين كانوا يتكالبون على هداياه التي لم تتوقف، وعملاته الصعبة التي يستبدلها بجنيهاتهم التي لا قيمة لها.
وبذلك أيضًا عاش الاشتراكيون والعروبيون معه أحلام الأرستقراطية التي كانوا يلعنونها على منابرهم، ويستمتعون بها في فيلا أسمهان بالمعادي التي استأجرها، واسطبل الخيول الخاص به، وحفلاته التنكرية في نادي الجزيرة.
استغل أيضًا لوتز جانبا آخر في مصر، وهو الولع الشديد بالنازية وبهتلر، فالجميع لم يصدق أنه مجرد تاجر خيول، وهو كان يحاول أن يُظهر أنه يكذب ويتلعثم حينما يسألونه إن كانت له صلة بالحزب النازي، فيغذي ذلك اقتناعهم بأنه كان كذلك.
محافظون، رجال أمن وموظفون كبار في الدولة صاروا مصدر معلومات للوتز بفضل دراسته لسقطات المجتمع، فقال في نهاية عمليته أنه لم يرَ نفاقًا اجتماعيًا كالذي رآه وتعلمه في مصر بعد خمسة أعوام أمضاها هناك.
ولعل السؤال الرئيسي: ما هو الدرس الذي يمكن أن نتعلمه اليوم في ضوء ذلك؟ ما المشتركات بين مجتمع الستينات الذي عرفه لوتز ومجتمعنا اليوم؟ وكيف يمكن أن نفهم أن دعاة التمسك بالعادات والتقاليد والتدين الظاهري وأصحاب الشعارات الحنجورية الذين يسخرون أقلامهم ويشغلون النيابة والقضاء ببلاغات الازدراء وخدش الرونق وملاحقة المفكرين هم أخطر على الأمن القومي من غيرهم؟
كل ذلك كان السلم للوصول إلى هدفه الأساسي: اختراق الحلقة السرية لمجتمع العلماء الألمان الذين كانوا يعيشون في حي المعادي في عزلة تامة ً، فماذا كشف؟ وكيف كشفت تلك المنظومة ما لا يمكن أن تتوقعه عن الإخوان المسلمين؟
هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة.