“ينتهي الغلاء حين تتحجب النساء”.
يخطيء من يفهم أن غرض الشعار السابق الذي انتشرت ملصقاته على كل جدار وميكروباص ومحل في مصر كان أخلاقيًا دينيًا يتعلق بالحشمة والالتزام وفقط. هو شعار بسيط، لكنه كقمة جبل ثلج. مقصود به إحداث الربط الشرطي بين دور واحد محدد للنساء في المجتمع يأتي الخروج عنه بالخراب والفقر.
تحت القمة جبل عريض من الأطروحات التي عملت الصحوة الإسلامية على نشرها ودعم منطقها حتى صارت بديهية لا تطرح للنقاش.
الكسب الاقتصادي عنوان سلطة الرجال على النساء. وهو الحجة التي تساق عند نقاش قوانين الميراث أو المطالبة بشروط متكافئة للعمل ومراعاة الطبيعة البيولوجية للنساء من حيث الحمل والرضاعة والإنجاب.
الرجل القوّام يدفع بهذه الحجج دفاعًا عن امتيازات. هو ملزم بكفالة النساء من الزوجة للأم للأخت. لكن الإيد قصيرة. إلى ذلك الحين، عليكن أن تقفن في انتظار تحسن الظروف دون تعديل في قوانين ولا خروج للعمل لتحسين ظروفكن. لأنكن – مرة ثانية- لو فعلتن ذلك تضيعن فرصه، فيقصّر في الإنفاق عليكن.
منطق يفترض أن يعيش ثلثا المجتمع (النساء والأطفال) على ريع ما يكسبه ثلث واحد. تحت سلطته بالطبع؛ لأنهما قطاعان عاجزان عن الإنتاج والكسب.
والافتراض الثاني أن كعكة الاقتصاد تضيق كلما انضم لها عاملون أو مستثمرون جدد. والبديهي أن الاقتصاد لو زاد المنضمون إلى دائرته لصارت الكعكة كعكتين. إلا لو افترضنا أن للاقتصاد مسيّرًا واحدًا وراعيًا واحدًا: دولة مالكة أو طبقة احتكارية أو تحالفا بينهما. والنتيجة في الثلاث حالات معروف أثرها على مجتمعنا وغيره.
حينما تتحجب النساء يعني ذلك أيضًا أن تقوم بالدور الوحيد الذي خلقت له: الأمومة وتنشئة الأطفال؛ لأن ذلك هو سبيل رفع الغلاء وزيادة فرص العمل للرجال.
أولئك هم الرابحون .. كيف يتفاعل الاقتصاد ونفسية المجتمع | خالد البري | رواية صحفية في دقائق
من ناحية، يعمل الإعلام والأسرة والمسلسلات والجيران والشارع على تكريس حالة ذنب دائمة لدى المرأة، وكأن كل وقت تقضيه في العمل كانت في المقابل ستقضيه في التربية. باب للتوبيخ المستمر والهمز واللمز وزيادة الأعباء.
من ناحية أخرى، تعزز الصحوة الإسلامية هيستيريا الأبناء الذين ضاعوا بسبب خروج النساء للعمل. ويستبعد الجميع لا إراديًا أي دور للرجل والمدرسة ومؤسسات المجتمع سواء في تنشئة الأبناء أو في إفسادهم.
لكن النساء في مجتمعنا لديهن دائما اختيار ثالث- افتراضي: رجل قوّام. غير منطقي في بلد فقير محدود الموارد والثروات أن نقنع بعضنا أن كل امرأة تحتجب عن العمل ستجد رجلا قوّاما. الأغلبية لن تجد.
لكن الصحوة الإسلامية أقنعت الجميع وهميًا. دون أي أثر لذلك في الواقع. فالنساء اللاتي تعملن في مهن الشقاء، تتمنين ما كان أي رجل سيتمناه، أن تجدن القوّام المنفق حتى يعتقهن من الشقاء.
والنساء المعيلات لأسرهن (30% من الأسر المصرية) لم تكن تتمنين أن تصبحن المنفق الرئيسي، أو أن يموت أزواجهن، أو يهربوا تاركين لهن أعباء الأسرة سواء بعد الطلاق أو حتى دون أن يتكلفوا عناء هذا الطلاق.
“لم أر تفككًا بهذا الحجم” | لماذا تطلب السوريات الطلاق فور وصولهن أوروبا؟ | ترجمة في دقائق
لكن هذا الافتراض الوهمي لم يزرع اعتباطًا.
يعرف من يقولون به أنه كلام في الهواء.
لكن الغرض الأبعد هو أن تلتصق تلك الصورة بجميع من يخرجن إلى الشارع أو العمل، أي يخرجن عن “الدور الوحيد الذي خلقن له”، صورة التي تخرج مؤقتًا لقضاء حاجة بعيدة عن مكانها الرئيسي. مؤقتة/ مذنبة/ مقصّرة.
حتى الأسرة التي تدفع بناتها للعمل تنتظر أن يأتي العمل بالعَدَل. عمل مؤقت “لحد ما تستقر”.
وعندما تستقر/ تقر في بيتها/ وتصبح من القوارير.
هكذا يعد سوق العمل للبنت التي لم تستعمل وظيفتها الإنجابية بعد بأفضل ما يعد للأم التي تدعوها القوانين المتعسفة والزملاء والزميلات للاحتجاب عن العمل.
وهو بدوره افتراض وهمي آخر؛ لأن الإنجاب وزيادة عدد أفراد الأسرة يتطلب مزيدًا من الدخل لن يستطعه صاحبنا القوّام في أغلب الأحوال. أو يستطيعه بزيادة مهلكة في أوقات عمله والبحث عن عمل إضافي.
في حالة البلاد الفقيرة، في الغالب تحدث كل هذه الخيارات معًا: تعمل المرأة، وتوفر وقتًا إضافيًا للأسرة، ويعمل الرجل في أكثر من وظيفة.
ستخرج المرأة إذن لاضطرارها واضطرار الرجال أيضًا.. لكن بشروط.
أن نذكرها دائما أنه خروج غير مرغوب فيه. ولا في الفرص التي يتيحها. ولا الترقي الاجتماعي. ولا الصداقات والمعارف ولا الانبساط.
أي وقت تخرج فيه لغير حاجة مسببة وضرورية هو لهو تحاسب عليه.
سنذكرها دائمًا أنها تخرج لتعود.
وخلال خروجها ستلبس ما يحافظ عليها “كالحلوى المغلّفة” حتى تعود.
ولو خالفت شروط الخروج تلك، صارت فتنة معروضة، مباح امتداد الأيادي عليها وامتداد الألسنة بالسباب.
بعد ما انتقصت من فرصنا في العمل، تحتفي أيضًا بخروجها بينما هي مقصّرة وسافرة ومذنبة.
التحرش والصحوة الإسلامية منافع مشتركة.. “علشان تبقي تقولي لأ! | عمرو عبد الرازق
فرضية نادرًا ما تحدث في أي بلد. ولم تحدث أبدًا في مصر. مع ذلك نجحت الصحوة الإسلامية في ترويجها كحقيقة ثابتة.
يبررون عبرها استحقاق تعدد الزوجات. الذي يقلل فرص الشباب الأفقر ماديًا لصالح الرجال المقتدرين (كالشيخ يعقوب مثلًا). ثم يتبجحون فيضيفونه لمساوئ وذنوب النساء اللاتي ترفضن التعدد وتتسببن في تأخر زواج الشباب وتحرشهم الجنسي في الشوارع.
ليس الحلال والحرام | تعدد الزوجات يمرر المرأة على الشيخ قبل تابعيه ..وضع يليق بهم | خالد البري
ويربطون تأخر سن الزواج بخروج المرأة للعمل وشعورها بالاستقلال الذي يجب أن تندم عليه، مستبعدين تمامًا أن يكون هؤلاء الشباب والشابات، مسلوبو الاختيار بشأن حياتهم الشخصية، ضحايا نظام مجتمعهم الاقتصادي وشرائعه الاجتماعية. وهي سبب رئيسي في حالة الاحتباس الجنسي المتفشية تحديدا في الطبقات المتوسطة المكبّلة.
عندما تتحجب النساء تزيد فرص رجال بعينهم. هؤلاء الذين يشيعون أن عددهن أكثر. وأن خروجهن للعمل يقلل فرص زواجهن. لتتكيّف البنات أيضًا بحكم الكثرة مع فكرة أنهن في منافسة للحصول على عريس في أصغر سن ممكنة. مكرّسات منذ الفترة الجامعية للحصول عليه حتى تنتهي علاقتهن بالمجال العام والعملي. مصممات ذهنيًا على تناقض بين أنوثتهن ومستقبلهن. متشككات في قدرتهن على الاختيار لأنفسهن. فالانتقال الوحيد نحو الدور الطبيعي هو انتقال من طور البنت لطور الأم. من بيت الأب لبيت الزوج.
وما يقبع في مركز تلك الرؤية أن تلك المرأة إذن لا ترغب ولا تختار. عملها اضطراري وخروجها مؤقت وغير طبيعي قياسًا إلى دورها المتوقع. المرأة الوحيدة التي تقع في دورها ومكانها الطبيعي هي الأم في البيت.
والأم هي المرأة الوحيدة المطمئنة. ينظر إليها المجتمع كما ينظر الطفل لأمه في علم النفس: المرأة التي انتهت من الرغبة الجنسية للأبد، مرة واحدة، لتصير ملكا لأبنائها.
هكذا المرأة المناسبة لمجتمعات السلطوية الدينية الريفية: حاضنة السلطوية الأولى،
السجينة التي يودع أصحاب السلطة القيمَ لديها، حتى تمررها وتعيد انتاجها بين بناتها وأولادها.
هذه هي الطريقة الوحيدة لتكريمها: الأم المثالية.
أي امرأة أخرى هي إما في طريقها لتصبح أمًا، أو لم تنجح أن تصبح أمًا. لا خيارات أخرى.. وكلهن إذن في وضع “غير طبيعي”.
لأن احتمالات الرغبة والاختيار لديهن لا تزال قائمة.
والأم التي لا تمتثل رمزيًا توضع معهن في نفس الخانة : الأم المطلّقة، الأم الأرملة، الأم التي تعمل في مهنة تمنحها شهرة أو نفوذًا.
كل هؤلاء ملزمات بتقديم كفارة ما للمجتمع. مقابل عفو اجتماعي عن خروجهن. مقابل التضحية بصورة الطهر الكامل للأمومة. بدل خدش أمومة.
التعبير الذي انتقل من مقصده بالسبق الحضاري للبلد الأم التي تحفظ قيمًا وتمررها دون تبديل في حماية رجل قوّام “يحافظ عليها”. مصر ياما يا بهية يا ام طرحة وجلّابية. الزعيمة السياسية عليها أن تصبح “أم المصريين”- حتى لو لم تنجب- حتى تكتمل صورتها. الأم منذورة لدورها طبيعيًا، وغيرها من النساء مشكوك في أدوارهن.
احتمالات رغبة.. واحتمالات اختيار.
الإصلاح الديني | هل الدولة جادة في تحقيقه؟ ومن المستفيد الأكبر من تعجيله / تعطيله؟| حيدر راشد
فتيات تيك توك خارجات عن الدور بحكم السن الصغير وبحكم الرغبة في الكسب أيضًا. الكسب من طريق اقتصادي غير متوقع، قبل الحصول على عريس، دون مساعدة الرجال، وبعيدًا عن ثرواتهم.
وكذلك سيدات الجاتوه في نادي الجزيرة اللاتي يمزحن بمقاربة جنسية وهن في سن الأمهات والجدّات.
كل من تستغني عن دفع الكفارة الأمومية وتستهين بها، وتعلن عن رغبة في العلن، ولو بهزار.
لهذا، ربما تعيد السلفية الصاعدة التأكيد على مكرمة الختان. أول الرسائل ضد الرغبة الجنسية لمن يفترض أن تعيش لتصبح أمًا فقط- منذ ولادتها.
هذا مجتمع متشبث بأمه، عاجز عن فراق طفولته. متمسك بقبليته، تحت إمرة الشيخ والراعي.
يقيم الحدود على كل من تتصور نفسها صاحبة اختيار دون استشارة أولياء أمرها. و
ما أفرزته السوشال ميديا حيال عقدته الأوديبية مرعب. لأنها لم تظهر فقط نساء أقدر على التعبير عن رغباتهن، ولكنها أظهرت على التوازي عجز القوّامين عن القوامة التي كانت دوما افتراضية. كانت الشراكة دائما موجودة، بالجهد والعمل والمال، بأمومة أو بدون، ولكن لم يرد أحد أن نراها.
وأظهرت كذلك أن العنف والاغتصاب والضرب والتحرش والطلاق الشفوي والتهرب من نفقة الأبناء وأكل الميراث واستغلال الضعفاء ظواهر لا تحول دونها الأخلاق الحميدة المفترضة ولا التديّن المهووس. ولا رادع لها إلا القوانين العادلة والمساواة أمامها.
وهو كأي مجتمع يقاوم حقيقته المتردية، أكثر جنونا وعنفا ووحشية، مدفوع لمسار نحو الأسوأ، حتى يلتصق ظهره بالجدار، ربما وقتها يبدأ في الاعتراف.
ريم والمدرسة والحجاب.. ٦ جمل مخيفة في مجتمع “مش داعش بس بيحترمهم” | فيروز كراوية