باحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي
من أشهر خطب عبد الحميد كشك إن لم تكن أشهرها على الإطلاق خطبته الشهيرة التي حكى فيها مناظرة الامام الصوفي أبو اليزيد البسطامي مع الرهبان؛ الخطبة الأكثر تداولًا له، قديمًا من خلال شرائط الكاسيت، وحديثًا كما يتضح من موقع يوتيوب، كما تنتشر في صفحات مواقع الإنترنت ومنشورات السوشال ميديا.
سبب شهرة الخطبة يعود لعزفها على الوتر الطائفي من خلال مناظرة بين شيخ وقسيس ينتصر فيها الشيخ فيعلن القسيس إسلامه، بالإضافة إلى كونها تتضمن أسئلة شبيهة بالألغاز والأحاجي المنتشرة في كتب الأدب قديمًا وحديثًا، بخلاف أسلوب عبد الحميد كشك الخطابي المحبب لكثيرين من الناس.
أفخاخ الإسلاميين | 11 | كيف أفسدت الصحوة الإسلامية أخلاق المجتمع؟ | هاني عمارة
التسجيل المتداول بعكس المتوقع جزء من خطة جمعة طويلة يتضح من مقدمة الشريط أنها تزامنت مع احتلال مجموعة جهيمان العتيبي للحرم المكي في شهري نوفمبر وديسمبر سنة 1979، حيث دعا عبد الحميد كشك في مقدمة الخطبة بتطهير المسجد الحرام من المعتدين.
حادثة احتلال الحرم المكي أحدثت صدمة بين المسلمين وقتها، لما استقر في وعي المسلمين من ارتباط المسجد الحرام بالأمن.
هذا تحديدًا كان دافع عبد الحميد كشك في الخطبة؛ إذ ذكر أن رسالة وصلته ممن وصفه بـ “حاقد على الإسلام” قال إنه أثار تلك الشبهة: كيف يكون الحرم آمنًا والمسلمون يقتلون بعضهم البعض فيه؟
ولأنها خطبة جمعة تتضمن خطبتين تتخللها استراحة، انبرى عبد الحميد كشك في الخطبة الأولى للدفاع عن الإسلام ضد ما يقول إنها شبهات الحاقدين، تكلم فيها ردh على شبهة أمن الحرم المكي متحدثًا عن “المؤامرات الصهيونية والصليبية على الإسلام” بطريقته المعهودة.
الخطبة الثانية والتي نحن بصددها تضمنت سرد المناظرة. حكى فيها أن البسطامي جاءه منام أن يذهب للدير في يوم عيد المسيحيين، فذهب هناك، فتحداه كبير الرهبان بـ 23 سؤالًا وإلا قتلوه، فأجاب البسطامي عنهم، فأعلنوا إسلامهم.
نوعية الاسئلة مألوفة. تبدأ بما هو الأول الذي لا ثاني له، والثاني الذي لا ثالث له، وهكذا.. وبقية الأسئلة هي أحاجي أدبية ولغوية ودينية تذكر كثيرًا في كتب الأدب والفوائد مثل: من ولدوا بغير أب، والمكان الذي لم تطلع عليه الشمس إلا مرة واحدة، والقبر الذي سار بصاحبه، وهكذا.
الهدف من قصة البسطامي والقس لا يمكن فصله عن موضوع الخطبة الأولى، وهو الدفاع عن الإسلام ضد ما سببته حادثة الحرم المكي من هزة في نفوس بعض المتدينين، لتنقلب لهجوم على المسيحيين، حيث يفهم من سياق كلام عبد الحميد كشك أن الحاقدين الذين استغلوا الحادثة هم المسيحيون.
لا يمكن عزل هذه القصة عن الشحن الطائفي في تلك الفترة في أواخر السبعينيات، نتيجة بروز الجماعات الإسلامية وانتشار المد الأصولي محليًا وإقليميًا، وما تبعه من شحن وتحريض ضد المسيحيين، وما نتج عنه من حوادث طائفية بداية من الاعتداء على الطلبة المسيحيين في المدينة الجامعية بأسيوط 1978، مرورًا بأحداث الزاوية الحمراء 1981.
عبد الحميد كشك نفسه ليس بريئًا من تلك الأحداث؛ لأنه دأب في عدد من خطبه على الهجوم على المسيحيين وتعتبر هذه الخطبة إحداها.
رسالة من جهيمان العتيبي إلى محمد بن سلمان .. رواية صحفية في دقائق
برغم شهرة الخطبة وانتشارها على الأشرطة وشيوعها على الإنترنت، إلا أنه بالتحري عنها، نجدها قصة مجهولة بلا مصدر، لم تذكر في كتب التصوف القديمة، خصوصًا التي ترجمت لسيرة البسطامي.
وهو ما دفع كثيرين للتوجه بالأسئلة لمراكز الفتاوى والشيوخ المعروفين عن أصل القصة، والجواب دائمًا أنها لا أصل لها حتى اعتقد البعض أن القصة من اختلاق عبد الحميد كشك. بالإضافة لرفض السلفيين القصة برمتها لموقفهم السلبي من أبي اليزيد البسطامي المتهم عندهم بالقول بالحلول ووحدة الوجود، شأنه شأن الحلاج وابن عربي.
لكن بعد مزيد من البحث، وجدت القصة في كتاب “شطحات الصوفية” لعبد الرحمن بدوي، حيث ذكرها، وقال إن مصدرها مخطوطة في مكتبة باريس تعود لسنة 1598. ووجدت كذلك مخطوطة في مكتبة طوكيو تختلف في بعض التفاصيل عن نص مخطوطة باريس.
مخطوطة مناظرة البسطامي والقسيس – مكتبة طوكيو
وجدت مخطوطة لنفس القصة في جامعة لايبزيك بألمانيا تعود لسنة 1568، أي قبل مخطوطة باريس بـ 30 عامًا. كما وجدت عنه مخطوطات أخرى بتاريخ أحدث.
ولم نجد اصلًا مطبوعًا قديمًا قبل عبد الرحمن بدوي، مما يطرح سؤالًا: من أين استقى عبد الحميد كشك القصة إذا كان مستبعدًا أن يكون قد قرأ لبدوي؟
الاحتمال الأقرب أنها كانت قصة متأخرة متداولة لدى الوعاظ والزهاد في القرون الأخيرة، فربما يكون الشيخ حفظها سماعًا، أو نقلها من مخطوط متأخر، ويدعم هذا أن هناك اختلافا في التفاصيل وبعض الأسئلة بين ما ذكره كشك ونص المخطوطات.
إذا كانت الرواية المنسوبة للبسطامي متأخرة، مع ملاحظة أن كثيرًا من أسئلتها مبثوثة في كتب الأدب والطرائف، لنطرح سؤالًا: كيف تطورت القصة لتصل بالشكل الذي وصلنا به؟
أساس هذه القصص هو تحدي الإيمان وصحة الدعوى من خلال أسئلة تعجيزية، وهي ما ورد في السيرة من تحدى أهل الكتاب للنبي محمد بأسئلة تعجيزية، فيرد عليها، فيوقنون بصحة نبوته، فيسلمون.
وأقرب ما ورد لهذا السياق ما ورد في سيرة ابن إسحاق، والدلائل للبيهقي، أن جماعة من اليهود تحدوا الرسول بثلاثة اسئلة عن أهل الكهف وذي القرنين والروح، فأجابهم بوحي القرآن فآمنوا به. والقصة على شهرتها وورودها في أسباب النزول إلا أن أغلب المحققين على تضعيف سندها.
تطورت القصة في القرن الثالث الهجري لخدمة الدعاية العباسية، حيث ورد في مسند السراج، وهو من أئمة القرن الثالث زمن العباسيين، أن ملك الروم أرسل يسأل معاوية بضعة أسئلة، فعجز عنها، فلجأ لابن عباس، فأجاب، فلما بلغ ذلك ملك الروم قال: لقد علمت أن معاوية لم يكن له بهذا علم، وما أصاب هذا إلا رجل من أهل بيت النبوة.
ويلاحظ أن الاسئلة الستة مذكورة في قصة البسطامي، مما يؤكد أنها من جذور القصة.
والهدف من القصة إثبات أفضلية العباسيين على خصومهم الأمويين، وأحقيتهم بالخلافة، حيث توجد عدة روايات بنفس السياق، يعجز معاوية مؤسس دولة الأمويين عن إجابة سؤال أو حل معضلة، فيلجأ لابن عباس جد العباسيين.
التطور الثاني كان في القرن الرابع، زمن البويهيين الشيعة، كما في كتاب الخصال للشيخ الصدوق، وهو من منظري الشيعة ومن كبار أعيانهم زمن البويهيين.
لكن الرواية غير أبطال القصة ليكونوا عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وجماعة من اليهود بدلًا من معاوية وابن عباس، مع إضافة عدة أسئلة (الأول والثاني… إلى ثاني عشر (كما في قصة البسطامي) بالاضافة لستة أسئلة شبيهة بأسئلة معاوية وابن عباس، حيث يدخل جماعة من اليهود على عمر بن الخطاب ليطرحوا اسئلة تحدٍ (معظمها نفس أسئلة الراهب للبسطامي) فيعجز عمر عن الإجابة عليها، فيجيب عنها علي بن أبي طالب، فيقول اليهود لعمر: نشهد أن هذا أخو رسول الله، والله إنه أحق بهذا المقام منك”. وأسلموا.
والقصة تأتي بتيمة منتشرة بكثرة في مرويات الشيعة، يعجز فيها عمر بن الخطاب عن إجابة سؤال أو حل معضلة، فتنشق الأرض عن علي بن أبي طالب ليحل الموقف، كدليل على علم علي وأحقيته بالخلافة.
التطور الأخير كان قصة البسطامي والراهب. ومن خلال تاريخ المخطوطات، يبدو أنها بدأت وانتشرت في القرن العاشر الهجري، الموافق للسادس عشر الميلادي، حيث غلب التصوف الوحدوي على العالم الإسلامي، ودخل في عصر الظلمات بظهور دولة العثمانيين وسقوط الأندلس وبداية حركة النهضة الأوروبية وحركة الاستعمار الأجنبي للبلاد الإسلامية، حيث غزا البرتغاليون شرق أفريقيا وسواحل الهند.
والسياق هو الانتصار للإسلام الصوفي المهيمن على العالم الإسلامي ممثًلا في الأولياء، وعلى رأسهم البسطامي في ذلك الوقت، في مواجهة الاستعمار الأوروبي المسيحي ممثلًا في مجموعة الرهبان.
موضوعات متعلقة
باحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي
باحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي
باحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي
باحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي
